تحقق رواية خليل صويلح الجديدة "زهور وسارة وناريمان" دار الآداب 2008 نقلة لافتة على مستوى تشكيل النص وتوجيه دلالاته نحو ثيمات أكثر شمولية واتساعاً، قياساً إلى موضوعات رواياته السابقة... ويعتمد البناء توظيفَ كتابة السيناريو وسيلة لتجميع عناصر النص الروائي ورسم ملامح الشخصيات وتشييد الحبْكة. ذلك أن مخرجاً سينمائياً اسمه خليل اختار أن يسكن في حيّ عشوائي على تخوم دمشق حيث أنجز فيلمه الأول عن المهمشين، وبدأ التفكير في كتابة سيناريو فيلمه الجديد انطلاقاً من صورة امرأة جميلة، خارقة، رآها في المنام راكبة قطاراً يجتاز الصحراء بسرعة مفرطة. وكانت نقطة الانطلاق هي العثور على امرأة تشبه أو تعادل تلك التي رآها في الحلم. إلا أن لخليل علاقة سابقة مع جارته زهور القاطنة بجواره فوق السطح مع زوجها العسكريّ المعطوب الذي يبيع السجائر والحشيش والسلع الممنوعة "وهي علاقة قوامها الاشتهاء الجنسي لامرأة ريفية محرومة من مضاجعة زوجها المعطوب في حرب الدفاع عن الوطن. وفي الأثناء، أتيح لخليل أن يشاهد سارة قطان ترقص رقصاً حديثاً فوق خشبة المسرح، فعثر في حركاتها وتعبيرية جسدها المتناسق على صورة امرأة الحلم والتي تصلح لتمثيل دورها في الفيلم الذي شرع في كتابة سيناريواه. تمّ التعارف بينه وبين سارة وبدأ الالتباس ينسج بينهما فصول التواطؤ والعاطفة المشبوبة والجنس الملتهب. على هذا النحو، يغدو المخرج موزعاً بين زهور المرأة البسيطة المتعلقة به، وسارة الراقصة الحديثة، المثقفة الطموحة التي تعيش تجربة الحب والجسد في ضوء النهار وتعرف ما تريد من الحياة. من خلال محاولة خليل استكمال عناصر السيناريو، يفكر في نموذج ثالث للمرأة يجده ممثّلاً في ناريمان الراقصة المومس ذات الجسد الشهواني المبتذل. لكن، ما الذي يجمع بين النساء الثلاث في فيلم خليل؟ العلاقة التي تعيشها كل واحدة منهن مع جسدها. من ثمّ يعرج كاتب السيناريو على استحضار لحظات أساس من حياة زهور وسارة وناريمان، فتتخذ بنية الرواية طابع المحكيات المتداخلة التي تنتظم وتكتسبُ تضاريسها عبر شخصية خليل السارد الذي يطغى صوته على بقية أصوات الشخصيات الأخرى، فتأتي المشاهد ملونة برؤيته وتأملاته وتساؤلاته المتناسلة عن الحب والجنس والصورة والصحراء والعيش داخل مجتمع يشبه إسطبْلاً مغلقاً يضجّ بالأوهام والأحلام. تشكيل النص يتميّز شكل"زهور وسارة وناريمان"بتوظيف حبكة تتمثل في كتابة سيناريو تُستمَدّ عناصره من تجربة حياة المخرج خليل الذي يتولى كتابة السيناريو وإنجاز الفيلم. من هذا المنظور، يكون المعيش والمتخيل السيناريو مُتجاوريْن لا يسبق أحدهما الآخر"أي أننا نتابع ? عبر القراءة ? مشاهد من حياة خليل وعلاقاته مع النساء الثلاث، وفي الآن نفسه نقرأ عن نيات المخرج المتصلة بكتابة السيناريو. بعبارة ثانية، تشتمل رواية"زهور وسارة وناريمان"على مادة مُتخيلة خام قد تستوحي واقعاً معيشاً، وأيضاً على خُطاطة لتحويل تلك المادة إلى شكل سيناريو تضطلع فيه الصورة بدور أساس يتمثل في الانتقال"من حقيقة القراءة إلى حقيقة البصر". من هنا سنجد أن الثيمات التي يُلامسها النص لا تنحصر في التأملات والأفكار التي يصوغها السارد وتحملها أصوات الشخصيات، بل تتعدى ذلك إلى جعل"حامل"الشكل، أي السيناريو المحتمل، موضوعاً لإظهار دوْر الصورة التي تدخل في باب الممنوع والمحرم، في مُطاردة المكتوب الذي تكرّس تقديسُه عبر العصور الفائتة"وهذا ما يبرر الاستشهاد بآراء بودريار وكيروساوا وتاركوفسكي... إن هذه الرواية ذات الشكل الموزّع بين سرد روائي وتلخيص للسيناريو، تفسح المجال أمام تعديد الأصوات وزوايا الرؤية والتأمل. من ثم نجد أن الدلالة تتوطّّنُ بين ثنايا النص وامتداداته، إلى جانب ما يبدو جهيراً شاملاً لمجموع النص، وهو العلاقة مع المرأة في تجربة المخرج خليل وتصوراته. فعلاً، تحتل مسألة العلاقة بالمرأة الحيّز الأكبر في تجربة خليل الذي ينتمي إلى اليسار واعتُقل بسبب أفكاره، وعندما خرج من السجن أنجز فيلماً عن العشوائيات التي أخذتْ تبدو كأنها مستقبل المدن في العالم... وقد سكن في حيّ فقير وأقام علاقة مع زهور ذات الجذور الريفية البسيطة، ثم استفاق على حلم رأى فيه امرأة جميلة فاتنة تجتاز الصحراء في قطار سريع، فقرر أن" هذه المرأة موجودة في مكان مّا، وأن عليه أن يبحث عنها في نساء أُخريات...". على تخوم الواقع والمتخيل، يعيش خليل تجربة الاقتراب من امرأة الحلم ويسعى إلى اكتناه أسرار الصحراء والنفاذ إلى أسباب التصحّر الذي أصابه، ومجابهة الفشل المعيق لتنفيذ مشروعه الفني والانتظام في حياته العاطفية والجنسية... وبين البحث عن امرأة المنام والتعلق بسارة قطان، والانشداد إلى جسد زهور والاهتمام بقصة ناريمان، يكتشف خليل توزّعه وحيرته أمام موضوع المرأة الذي عاشه وسط التناقضات والإرث الذكوري الاستلابيّ. ومن خلال محاولة إنجاز السيناريو، والمقارنة بين نماذج المرأة المتاحة في الواقع لا كما تبدّتْ في المنام، يدرك خليل أن الطريق الممكنة للاستمرار داخل مجتمع موصد الأبواب، هو الارتباط بسارة التي سافرتْ لتدرُس الرقص الحديث في إسبانيا مدة سنة، وسلمته مفتاح غرفتها لينتظر عودتها... من هذه الزاوية، نجد أن النساء الثلاث، على رغم اختلاف وضعهن الاعتباري، يتميّزن بالشجاعة في مواجهة الحياة ومقارعة الشروط الصعبة التي تشرط حيواتهنّ "بينما يبدو خليل ممزقاً، هشاً، لا يقوى بمُفرده على الحسم والاختيار. ويكتسي الحلم والصحراء في هذا النص، دلالات تُحيلُ على التعلق بالمطلق المُنفلت باستمرار، وعلى بديل هو أفضل من الحياة في مدينة غزَتْها العشوائيات، وشوّهها الفقر والمتاجرةُ في المخدرات. ولحضور الصحراء علاقة بجذور طفولة خليل وذاكرته الأولى التي يسترجع بعض ملامحها أثناء زيارة قام بها إلى بيت العائلة لتصوير مشاهد ينوي توظيفها في فيلمه المُرتقب. إلا أن الدلالة في"زهور وسارة وناريمان"لا تكتمل عناصرها ولا تنتظم الرؤية التي تسلكها إلا باستحضار الخلفية التي يصدر عنها المخرج خليل ذو الماضي اليساري والذي بات يعاينُ انحدار مجتمعه وانغلاق أبواب الأمل. وتدهوُر الحاضر له علاقة برواسب الماضي:"... صرتُ أتخيل جلسائي في المقهى بأزياء أجدادهم، فالدماغ الذي يبثّ أفكاراً في الحداثة وما بعد الحداثة، والنهضة والتنوير، هو الدماغ نفسه الذي يضمرُ نصاً آخر. بفحص دقيق، يتكشّفُ هذا النص عن هوية أخرى تتناسل إلى عشائر وبطون وأفخاذ، وكأننا لم نغادر اللحظة البدوية الأولى خطوة واحدة. ولكن ماذا لو أن ذاكرة الأسلاف بكل ثقلها وأمجادها، كانتْ مُزوّرة ؟". إن خليل صويلح الذي لفت النقاد بروايته"ورّاق الحب"2002، ثم"دع عنك لومي"2006 ، يؤكد في"زهور وسارة وناريمان"قدرته على إبداع كتابة روائية تُزاوج بين المتعة وصوغ أسئلة مُتحدّرة من واقع عربي يعاني الانغلاق والقهر وعبادة الماضي... ومن ثم فإن العلاقة مع المرأة في مجتمع ذكوري تشكّلُ في هذا النص، مدخلاً أساسياً لكشف المخبوء واستجلاء البثور الكامنة على امتداد"العشوائيات"التي تخنق أنفاس المدن العربية الغائصة في عتمة متعاظمة.