تأتي رواية فواز حداد"مرسال الغرام"دار رياض الريس تتويجاً لتجربته التي ابتدأت مختمرة، كالعهد - غالباً - بمن يبدأون الكتابة أم النشر؟ في سنّ متقدمة أين عبد الرحمن منيف؟. وقد تمفصلت تجربة حداد منذ البداية عام 1991 في رواية"موزاييك دمشق 39"مع لحظات حاسمة في تاريخ سورية الحديث، إلى أن بلغت في الرواية السادسة"مرسال الغرام"نهاية القرن العشرين، حيث تعمق ما راهنت عليه الروايات السابقة من الحفر في السجلات - وبخاصة ما يؤرخ للفن فيها - ومن لعبة السيرة النصية كميسم حداثي يباري الميسم الكلاسيكي لروائية الكاتب. ولعل هذا ما يتبدى منذ لعبة عنونة فصول الرواية التي بلغت أربعة أسطر الفصلان 64 - 74 وستة أسطر الفصل 49 وثمانية أسطر الفصلان 84 - 16، لا لتعلن فقط عن محتوى الفصل، بل لتعلن أيضاً، بالأحرى أولاً، عن نظام الرواية، وهذا مثل من كثير في عنوان الفصل 64:"وقفة صغيرة لا بد منها تسهم في ترتيب بعض الفصول القادمة، التي جرت قبل الفصل السابق". ومثل ذلك هي الفصول الأولى، ومنها: تمهيد، نبذة، بين قوسين. أما اللعب بأسماء الشخصيات، فمنها ما يعلق السؤال بين المؤلف والراوي الذي سمته الرواية بلقبه، وبه تعنونت:"مرسال الغرام"، ومنها ما اكتفى بالحرف اسماً: م .ع ول. ع والدكتور ج، إما مناداة للكافكاوية - ولكن بلا مبرر - أو للتقية أو للتعمية. إلى لعبتي العنوان والاسم تتعلق الشخصية المحورية محمود رشوم بالراوي وبالتالي بالمؤلف كما يتبدى في رد الراوي على تحذير الممثلة ناريمان له من رشوم:"لا مستقبل لي من دونه"، أو كما يتبدى في اعتبار الراوي أن أعظم حدث في حياته هو جيرته لرشوم. فالراوي إذ يحمل إلى ناريمان السيناريو الذي كتبه رشوم، ينفي أن يكون تمثيلية تاريخية أو كوميدية، لكأنما يعني الرواية، وبخاصة حين يصف السيناريو بأنه عاطفي مشوق وقوي ومؤثر، وتلك صفات تليق حقاً ب"مرسال الغرام"، من دون ابتذال. وسنرى خطة رشوم في كتابة السيناريو تنقيباً في تاريخ الغناء العربي والدراسات المتفرقة والتسجيلات والمذكرات، لكأنما يعني الرواية. وهذا أيضاً ما يخلص إليه الأعمى كاتب السيناريو الآخر في النهاية، حين يرى أن الحيّز - أي السيناريو، بل الرواية - ضيق وقد اكتظ بالشخصيات وبالمجهول الذي أضاف رتوش القدر وعجّل بتدافع الأحداث وتصادمها، ساعياً إلى نهاية قبل الأوان. ولئن كان الراوي يسأل الأعمى عما إن كان هو القدر الذي يحرك الجميع، فالأعمى سيقول في فصل تالٍ:"المجهول هو شخص آخر يكتب سيناريو نحن فيه"، فهل هي إشارة أخرى إلى المؤلف؟ الرواية والسيناريو إذا كانت رواية الكاتب"تياترو 1949"قد تعلقت بالمسرح، فرواية"مرسال الغرام"تتعلق بالخطوة الأولى في المسلسل التيلفزيوني: السيناريو، وصولاً إلى إنتاجه. فقد حمل الأعمى إلى محمود رشوم فكرة سيناريو، ورشوم يسعى إلى أن يقنع ناريمان بتمثيل المسلسل، جاعلاً من الراوي مرسال الغرام بينه وبينها. وسيظهر المخرج مسعود السعدي ويظهر م. ع. الذي تخلى عن ناريمان ومال إلى الممثلة الصاعدة تغريد، كما سيظهر المفتشون، وتتلبس الرواية بالبوليسية، وكل ذلك عن طريق كتابة السيناريو فإنتاجه. وبالأهمية نفسها يأتي فعل السيناريو في بنية الرواية، وهو الفعل الذي تنبأ عادل أبو شنب منذ عقود بأنه سينتهي إلى السينيرواية السيناريو / الرواية. كما كان ذلك الفعل تشكيلاً ناتئاً في رواية صنع الله إبراهيم"بيروت بيروت". أما في رواية"مرسال الغرام"فستنادي كتابة السيناريو ذلك الفصل الذي ينقل من الكاسيت الأصوات والحوار مما دار بين رشوم الأعمى حول السيناريو. وسيعلو النداء في الفصول 75 - 85 - 26 - 36 التي تقلّب احتمالات كتابة السيناريو بين رشوم الأعمى والمخرج، وفي الفصول التي تعتور خاتمة السيناريو وهو يترجّح بين أصل كتبه الأعمى ومقلد يؤثث المكان ويرسم حركات الشخصيات، لكأنه القسم الخاص بالصورة في كتابة السيناريو. ولعل الدلالة الكبرى للعبة السيناريو في"مرسال الغرام"قد جاءت في نهاية الرواية عبر برء الراوي على يد ناريمان من عجزه الجنسي، وعبر ما يهيم به الراوي بعد اختفاء رشوم على إيقاع أغنية أم كلثوم: أن يكتب رشوم ما هو أكثر من سيناريو، وأن يظهر ليمضي معه الراوي إلى بقية لقصتهما، بقية ل مرسال الغرام، فنهاية الرواية مفتوحة. الرواية والموسيقى لروايات فواز حداد عنايتها الكبرى بالفنون الأخرى، وبخاصة العلاقة بين الموسيقى والرواية، هذه العلاقة التي تبدو الرهان الأكبر لرواية"مرسال الغرام". فمحمود رشوم الذي هاجر إلى الخليج ليعمل في الإضاءة والديكور والتصوير، مال إلى الصوت، وراح يجري تجاربه ملاحقاً تساؤلاته التي أفضت إلى أن الحوار يقتصر على الحوار، والكلام يقتصر على الكلام، أما الصوت؟ ينتهي رشوم إلى أن الصوت هو الكاشف، وينجح في اكتشاف كيميائية الصوت، لكنه يعود إلى دمشق بعدما خاب في تسويقه لاختراعه إذاعياً وتلفزيونياً. وإذا كان اختراع رشوم أي ما ترسله الرواية في الصوت يتعكز على السيميائية. فحديث الاختراع سينقلب إلى الغناء والموسيقى منذ تدريبات رشوم لناريمان، وسيظل كذلك حتى تقترب الرواية من النهاية في الفصل 98، حيث ينبئ الراوي باختراق جوقة من الأصوات لرشوم، وهي: صوت العقل الذي بلا فائدة كصوت العاطفة، وصوت الزمن المخيف. وسيلي في الفصل الأخير: صوت الحب، لكأن الرواية بذلك تكرس أطروحتها الفنية، ولكن ماذا عن لغة الأخرس، وماذا عن الأطرش والأخرس الأطرش؟ يتباهى رشوم بأنه وحده من يتقن فك شفرة الأصوات الحافلة باللغات. ويبدو رشوم يتوه في متاهة الأصوات وهو يدرب الراوي ويحشد الرواية بالرفرفة والدفدفة والشقشقة واللقلقة والبقبقة والسقسقة وما شاكل مما ينادي اللعبة اللغوية الأثيرة في روايات إدوار الخراط وأطروحته العتيدة في غنّة الغناء وهزج الأصوات، غير عابئ بما يتأتى للسرد جراء ذلك من عور. وفي متابعة الرواية للعبة الموسيقى لحناً وغناء تتألق خبرة الكاتب في تجربة عبده الحامولي فتجربة أم كلثوم. لكن هذا التألق سيرتبك بالتأريخ التي تبدأ بعرض أو نقد كتاب قسطندي رزق أفندي حول الموسيقى الشرقية والغناء العربي، ثم بعرض ونقد الاحتفال بمئوية أم كلثوم، ثم بالتاريخ الجديد لأم كلثوم، والذي يستغرق من الرواية عشرات الصفحات، لو حُذِفَتْ لما خسرت الرواية شيئاً، إن لم يكن العكس. ولا يخفف من ارتباك الرواية هنا ما أقامته من مسرحة للتأريخ، أو من توازٍ بين فصول التأريخ والفصول البوليسية التي تتابع قضايا إنتاج الملسل والتفتيش الإداري والصراع بين الثري المتنفذ م. ع. ورشوم وناريمان والراوي... بل إن التأريخ سيثقل على الرواية بشعر أحمد رامي أو الهادي آدم مما غنته أم كلثوم وبما غنّت لغيره - كما فعل غازي القصيبي من قبل في روايته العصفورية. لكن الرشاقة والسخرية في رواية القصيبي دغمتا المتناصات الكثيرة من شعر المتنبي في نسيجها، مما لم يتوفّر لرواية"مرسال الغرام"على رغم ما أبدعته من السخرية أيضاً، ولكن ليس في هذه المواطن منها. ويبدو أن الرواية أدركت ورطتها فلعبت لعبة رابطة عشاق أم كلثوم، حيث يشبك الزمن الروائي بين زمن أم كلثوم وزمن رشوم والأعمى، فإذا بالأعمى هو سيد مكاوي، وإذا بالمرأة التي تقلد أم كلثوم، لا تقلدها، بل تسعى لتكونها، وإذا برشوم يتقمص السادات ويلتقي أحمد رامي.. ليصير إدراك الرواية لورطتها في تساؤل الأعمى نفسه:"هل أنا أسير رهبتي للفن أم عظمة زمانها أم كلثوم أم أن حبي لها قيدني بها؟". التعرية والهجاء مع طموح"مرسال الغرام"لأن تؤرخ للموسيقى والغناء خلال عقود أم كلثوم، يتوازى الطموح لأن تكون هذه الرواية"جردة"للعقود السورية الأخيرة، بالتمفصل مع انقلاب 1963 الذي جاء بحزب البعث إلى السلطة. ويتجسد هذا الطموح في شخصية م. ع. القادم من ريف الساحل إلى العاصمة، والذي غدا بؤرة الفساد والإفساد، مثله مثل ابن أخيه ل. ع و مثل الدكتور ج. المسؤل الخطير الذي حصل على الدكتوراه، وعرفت زوجته السرية الروسية ناتاشا أنه من ال ك. ج. ب. السوري. عبر سرد حيوات كل من هذه الشخصيات الثلاث، وعبر سرد حياة العاهرة لطيفة، وحياة المحقق الذي لا تسميه الرواية، عبر ذلك تعري الرواية القمع والفساد. غير أن هذه التعرية التي توسلت البوليسية والسخرية، تغدو غالباً هجاء عميماً وصارخاً للمؤسسات الإعلامية والإدارية والأمنية والثقافية والحزبية والدينية. وإذا كان ذلك لم يؤثر في البناء المحكم للشخصيات الروائية الأربع المذكورة، فالمفارقة أنه قد أعلى من الخطابية في الرواية، كما أعلتها التأملات الطويلة التي يسوقها الراوي أو رشوم أو السارد في الفن والحداثة والماركسية.. ويتجاوز طموح الرواية هنا الفضاء السوري إلى العالم كله في"الدرس"الذي يلقيه رشوم على أم كلثوم عما طرأ بعد ربع قرن من موتها، من الانتفاضة الفلسطينية الثانية إلى الموضة وحديث البيضاوات والشقراوات الذي سبقت إليه أيضاً رواية"العصفورية"في مفصل بديع من مفاصلها البديعة. أما المفارقة فتكبر إذ تنشغل طويلاً رواية بمثل هذا الطموح بشريط فيديو جنسي لمسؤولين، وتغفل - على سبيل المثل - عن واحد من أهم مفاصل العقود السورية الأخيرة، هو مفصل الصراع الدامي الذي كان بين السلطة والتيار الإسلامي العنفي، بينما أطنبت الرواية في ما جعل البروفسور الروسي يصدح:"سورية من بلاد ألف ليلة وليلة"وهو الذي لم يعلم من غرائب أو عجائب أو خوارق أو فانتازيات الحياة السورية غير"وصلة"شهادة الدكتوراه التي منحها للدكتور ج. فكيف لو عاش ذلك البروفسور هذه الحياة! بكل ذلك تبدو"مرسال الغرام"رواية من"العيار الثقيل"، لم توفر وسيلة لتكون كذلك، ابتداءً أو انتهاء بالجرأة أو النقد أو الفكر أو بتفعيل الفنون السيناريو والموسيقى في الرواية. وسواء صحت أم لم تصح الإشارات السابقة إلى ما اعتور الرواية، فهي توكيد لاختمار تجربة فواز حداد، وإضافة مهمة إلى هذا النهر الدافق: نهر الرواية العربية.