في الحديث مع مسؤولين أو خبراء أميركيين يستغربون حجم القلق لدى المثقفين والسياسيين الأردنيين من مسألة"الوطن البديل". وبرأي أغلب هؤلاء الباحثين أنّ هنالك مبالغة أردنية في التعامل مع هذا الهاجس، باعتبار أنّ الصوت الذي ينادي به سواء في الولاياتالمتحدة وإسرائيل هو صوت محدود يمثِّل الأقلية لا الأكثرية، وأنّ الأردن هو دولة محورية في استراتيجية الأمن القومي الأميركي تجاه المنطقة. هذه القراءة ربما تكون صحيحة إذا كانت الأحداث على أرض الواقع تسير بالاتجاه نفسه. لكن من الواضح تماماً أنّ الخيارات الواقعية في التعامل مع القضية الفلسطينية تذهب باتجاه الحل الإقليمي، وبصورة خاصة استعادة العلاقة بين الأردنوالضفة الغربية. فالمسألة تتعدى حالة"الهاجس"إلى توصيفها ب"الخطر"الممكن والمتوقع، تحديداً في حال لم تكن هنالك إجراءات متينة مضادة له. يكمن وراء"إحياء"الخيار الأردني وتصاعد الحديث عنه أسباب عديدة أبرزها انسداد أفق التسوية السلمية، خلال المرحلة القريبة القادمة، ما يعني تراجع فرص إقامة الدولة الفلسطينية، بالتوازي مع استمرار الاستيطان والتغول الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية، مما يُصعّب من"التنازلات الإسرائيلية"في المرحلة القادمة، ويُقلل من إمكانية الاتفاق على قضايا الحل النهائي. مما يعزز احتمالات"الخيار الأردني"الانقسام الحالي الفلسطيني جغرافياً وسياسياً. إحدى الحجج والذرائع الإسرائيلية: أنّ السلطة الفلسطينية لم تستغل الانسحاب الإسرائيلي من غزة، بل المستفيد الأول كانت حركة حماس. وليس هنالك"ضمانات"لإسرائيل بأنّ انسحابها من الضفة الغربية أو تقديمها أية تنازلات سوف يكون أيضاً لصالح حماس. حركة فتح تعاني من تشتت كبير وأزمة خانقة، ووضع الرئيس عباس حَرِج، هذا مع استحقاق الانتخابات الرئاسية وتعدد الاحتمالات. ومع انغلاق آفاق التسوية وتراجع الأمل في حل يعيد"الحياة الطبيعية"للمواطنين، سوف تزيد عوامل تفكك السلطة في الضفة الغربية وحدوث حالة من الفوضى السياسية والأمنية، وفي هذه الحالة فإنّ حماس، مع الحركات الإسلامية الأخرى، هي المرشحة لملء الفراغ. عندما يذهب التفكير الأميركي والإسرائيلي بهذا الاتجاه فإنّ"الخيار الأردني"سيكون مطروحاً على الطاولة بصورة مباشرة وكبيرة أميركياً وإسرائيلياً، وربما لدى تيار فلسطيني أصابه الإحباط واليأس من فرص التسوية ومن الحالة الداخلية الفلسطينية. هذه الخلاصة تؤكدها مقالات وتصريحات لعدد من الأميركيين والإسرائيليين. أهم من تحدث بها مؤخراً هو غيورا إيلاند، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق، وأحد المحللين الاستراتيجيين البارزين. إيلاند وصل إلى عودة الخيار الأردني افتتاحية صحيفة بديعوت أحرنوت. وفقاً لإيلاند فإنّ الظروف المناسبة للتسوية السلمية كانت متوافرة قبل ثماني سنوات، عند فشل مفاوضات كامب ديفيد. أمّا اليوم فإنّ فرص التسوية تبتعد مع مرور الوقت، وهنالك جملة كبيرة من العراقيل التي تحول دون ذلك، ويصل إلى القول:"حان الوقت للتفكير بحلول أخرى، أحدها هو العودة ليس إلى حدود 1967، بل إلى الواقع الذي ساد في ال1967، عندما كان الأردن يسيطر في الضفة الغربية". الدبلوماسية الأردنية تتعامل مع المعطيات الواقعية من هذا الباب. فخلال السنوات الأخيرة انتعشت آمال التسوية السلمية وعرّف الأردن بوضوح مصلحته الاستراتيجية ب"إقامة دولة فلسطينية على حدود عام ال67". وعندما انتصرت حماس في الانتخابات التشريعية، من دون أن تتراجع عن موقفها الرافض لقرارات الأممالمتحدة، أدرك صانع القرار الأردني أنّ ذلك سوف يحول دون تسويق فكرة"الشريك الفلسطيني"، ما يدعم الحجج الإسرائيلية. فانحاز الأردن مع الرئيس عباس على اعتبار أنّ ذلك يحقق المصلحتين الأردنية والفلسطينية. الخطأ الذي ارتُكب أنّ هذا الانحياز أضاع على الأردن فرص القيام بدور حيوي في المصالحة الوطنية الفلسطينية، وهو الأقدر على ذلك. كما أدى هذا الخطأ إلى إبحار حماس بعيداً باتجاه طهران وحساباتها الإقليمية. مع انسداد أفق التسوية انتقل المنظور الأردني من سياق المصلحة الاستراتيجية بإقامة الدولة الفلسطينية، إلى سياق"الأمن الوطني"بعدم تمرير حلول على حساب الأردن، ما يفرض حسابات استراتيجية مختلفة، وتحديداً مع أطراف الصراع الفلسطيني. فأعاد الأردن فتح القنوات مع حركة حماس بصورة ديناميكية وذكية. في الفترة القادمة يبدو صانع القرار الأردني مَعنيّاً بتصليب الموقف الفلسطيني الرافض للحلول الإقليمية. وإلى الآن تقدم حماس رسائل مطمئنة برفضها إرسال قوات عربية إلى غزة وتَمسِكها بحقوق اللاجئين والقدس والحدود، ما يعزز الرؤية المشتركة مع الأردن في ظل تلاشي، أو على الأقل تراجع، فرص التسوية السلمية. في سياقٍ موازٍ تدفع اللحظة الحالية إلى تصليب الجبهة الداخلية وتعزيز عوامل رفض أي تمرير للخيار الأردني، وهو ما يستدعي انتخابات نيابية مبكرة تعيد الثقل والحضور لمجلس النواب ليكون رافداً قوياً للموقف الرسمي ضد أية ضغوط دولية أو إقليمية مفترضة ما يشكّل تحدياً استراتيجياً حقيقياً خلال المرحلة القادمة. * كاتب أردني.