انفض مولد إطلاق المفاوضات المباشرة في واشنطن بلا أيّة إشارات تشي بوجود أفق حقيقي للقاءات الفلسطينية - الإسرائيلية التي ستبدأ قرابة منتصف الشهر الحالي، طالما أنّ هنالك اختلالاً كبيراً في ميزان القوى بين الطرفين، وطالما أنّ نتانياهو أثبت أنه أكثر صلابة من أيّة ضغوط أميركية أو دولية. ما يجعل من توقع اختراق معين مسألة في غاية الصعوبة يكمن في أنّ أجندة نتانياهو تتناقض مع مشروع الدولة الفلسطينية، حتى وفقاً للسياسيين الإسرائيليين المعارضين له والمشككين بصدقيته وبجدّيته في تحقيق تسوية سلمية تفضي بحلٍّ للدولتين. تلك القناعة أكّدها عدد كبير من السياسيين والديبلوماسيين، سواء في جلسات خاصة أو عامة أو مقالات مكتوبة، ولعلّ أبرزها التحليل الذي قدّمه السياسي الأردني المخضرم، د. مروان المعشّر، عبر نافذة كارنيغي للشرق الأوسط، إذ شكّك في أي فرصة لنجاح المفاوضات في صيغتها الحالية، ما لم تأخذ بعداً إقليمياً كاملاً، عبر ودائع تقدّم للإدارة الأميركية من الأطراف المختلفة، وهو مسار من الواضح أنّه عن المسار الحالي للمفاوضات، الذي يستعيد الطريق المغلقة نفسها، التي سرت عليها المفاوضات منذ أوسلو إلى الآن، واستمرت تدور في حلقات مفرغة. الآن، ومع التسريبات التي تتحدث عن اتفاق إطار خلال عام وتنفيذ قد يمتد إلى عشر سنوات، فسنكون كمن يحرث الماء، ومن الواضح أن هدف نتانياهو هو «شراء الوقت» والاستمرار بتغيير الوقائع، والقضاء تماماً على أيّ إمكانية لقيام الدولة الفلسطينية مستقبلاً. الاختراق الحقيقي الوحيد الذي حدث خلال الأيام القليلة الماضية، بعيداً من المشهد المكرر في إطلاق المفاوضات، تمثّل بعمليتي كتائب القسام التابعة لحركة حماس، وهما عمليتان تمثّلان «رسالة سياسية» في في غاية الأهمية سواء في الدلالة أو التوقيت. فمن جهة، العمليتان هما في الضفة الغربية، وليس في غزة، بمعنى أنّ حماس تحافظ على «الهدنة» مع إسرائيل في منطقة نفوذها، لكنها تملك التحرك والتأثير على الوضع الأمني في مناطق تحت نفوذ السلطة أو بالشراكة بينها وبين الإسرائيليين، أي أنّها رقم صعب حتى في الضفة الغربية. الدهشة تتجلّى في أنّ العمليتين تأتيان بعد سنوات من العمل الأمني المحترف الذي يقوم به الجنرال دايتون في تدريب الشرطة الفلسطينية والتنسيق مع الإسرائيليين وتفكيك خلايا حماس والقسّام في الضفة، والعمل على الأرض بصورة منتظمة ودائمة، وبقدرات ودعم إقليمي كبير، ما دفع إلى بروز قناعة خلال السنوات الأخيرة بنهاية كتائب القسّام بالضفة وإضعاف حماس بصورة كبيرة. ثمّ ومع إطلاق مفاوضات السلام تفاجئ كتائب القسّام المجتمع الدولي والسلطة وإسرائيل بأنّها حافظت على وجودها وقدرتها على العمل على رغم كل هذه البيئة المحكمة ضدها، ما يعني أنّ الوضع الأمني في الضفّة الغربية ليس مؤمّناً، بل عليه جملة كبيرة من علامات الاستفهام. ليس واضحاً بعد فيما إذا كانت حماس قد درست نتائج هذه العمليات وتداعيات الحملة الأمنية الجديدة ضدها، لكن بقاء الكتائب بعد الاستهداف المعقّد هو بحد ذاته مؤشّر أنّ ما يحدث وسيحدث لن يلغي حماس عن خريطة الفعل في الضفة الغربية. ما يثير القلق حقّاً أنّ المسافة بين فتح وحماس تتسع مع مرور الوقت، وتقلّ فرص الحوار والمصالحة الوطنية، وهي حال مثالية تسير بخط موازٍ لتخصيب مشروع نتانياهو بإعدام فكرة الدولة الفلسطينية، ما يسرّع في المقابل من تدهور المشهد الفلسطيني. إلى الآن، وعلى رغم تباين سقف التوقعات بين المسؤولين الأردنيين لمآلات المفاوضات الحالية، فإنّ ما هو مؤكّد أنّ المسار الحالي للقضية الفلسطينية يمثّل تهديداً للمصالح الوطنية الأردنية وللأمن الوطني، في ظل وجود حكومة يمينية إسرائيلية تزداد القناعة لدى سياسيي عمان يوماً بعد يوم أنّها تريد تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن أو من خلال دور أردني لا يرغب به إطلاقاً صانع القرار هنا، بل يراه انتحاراً سياسياً بمعنى الكلمة. المسؤولون الأردنيون (إلى الآن) يصرّون أنّ الأردن لا يملك خيارات أو رهانات حقيقية في مواجهة إخفاق التسوية أو تصلّب الحكومة اليمينية الإسرائيلية، وأنّ الرهان على أي دعم عربي أو موقف صلب في المعادلة الإقليمية هو وهم، فلا يبقى إلّا التعلّق بالخيط الوحيد وهو الإدارة الأميركية وإقناعها بأهمية التسوية وضرورتها، والاستمرار في اللعبة إلى نهايتها، طالما أنّها الخيار الوحيد. إلّا أنّ الهاجس الرئيس الآن يتمثل بأن يؤدي انسداد آفاق المفاوضات السلمية واضمحلال الرهانات الأردنية على إسقاط حكومة نتانياهو وعزلها داخلياً وخارجياً، وتراجع الضغوط الأميركية أمام إسرائيل، وفي المقابل عودة كتائب القسّام إلى العمل في الضفة الغربية، سيطرح أسئلة حقيقية على الاستقرار الأمني والسياسي في الضفة وعلى قدرة السلطة الفلسطينية على التماسك والصمود في ظل تضارب المصالح داخلها والإحباط الشعبي من الوعود الدولية، وفقدان الأمل بحل عادل ينهي معاناة الفلسطينيين. كل ذلك يدفع بمطبخ القرار في عمّان إلى إعادة النظر في رهاناته للمرحلة المقبلة وفي محاولة التفكير مرّة أخرى في البدائل والخيارات، وذلك يقتضي ابتداءً مراجعة السياسة الأردنية الحالية التي تقوم على عدم الانخراط في محاولات المصالحة الوطنية الفلسطينية أو إيجاد قواسم مشتركة ومحاولة بناء ملامح لسيناريو بديل أو موازٍ لمسار المفاوضات المتدهور، وإلّا فإنّ المجرى الحالي للنهر سيصب في نهاية اليوم ضد المصالح الأردنية والفلسطينية على السواء! * كاتب أردني