ما الذي يجعل الخيار "الأردني" عصيّاً على الموت؟ ولماذا يصر على الإطلال برأسه بين الحين والآخر، وعلى وقع الاستعصاءات المتكررة التي تدفع باتجاه ترجيح كفة القائلين بأن حل المشكلة الفلسطينية قد يكون ممكناً في السياق الأردني فقط، ومن خلال"المملكة الكبرى"التي تضم الأردن وفلسطين على أساس كونفيدرالي؟ وهل تتعارض دعوة الرئيس الأميركي جورج بوش إلى عقد مؤتمر دولي هذا الخريف، ترأسه الولاياتالمتحدة وتحضره"دول الجوار"، بهدف إحياء عملية السلام في المنطقة وأفق حل الدولتين، مع خطة الاتحاد الكونفيدرالي التي عرضها رئيس الوزراء الأردني السابق عبد السلام المجالي على الساسة الإسرائيليين، بوصفها اقتراحا شخصيا، وتبنى الدعوة إليها عدد من الشخصيات الفلسطينية؟ وأخيرا، هل ثمة تعارض ما بين الدعوات الأردنية المتتالية لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، وفق رؤية الرئيس بوش، وبين تبني خطة الاتحاد الكونفيدرالي، تحت ظلال الرفض الإسرائيلي مناقشة القضايا المحورية الثلاث: الحدود واللاجئين والقدس، وواقع الانقسام الفلسطيني الذي يتكرس بوجود كيانين منفصلين على الأرض واحد في الضفة وآخر في غزة، وظهور العديد من المؤشرات الدالة على ترجيح كفة قيام الدولة ذات الحدود المؤقتة؟ المعلومات والمؤشرات المتقاطعة تؤكد أن العديد من المبعوثين الأردنيين جالوا في العواصم المؤثرة في المنطقة والعالم مطلقين بالونات اختبار هدفها تفحص ردود فعل زعماء العالم، وكذلك رد فعل الفلسطينيين، على فكرة الاتحاد الكونفيدرالي العتيدة التي ستبحث في إطار دورة دراسية، بمشاركة أردنيين وفلسطينيين، في معهد"هادسون"في واشنطن خلال الأيام المقبلة، فيما شهدت مدينتا أريحا الفلسطينية والعقبة الأردنية لقاءات ومؤتمرات، شارك فيها العشرات من الشخصيات الفلسطينية والأردنية والإسرائيلية من المفكرين والساسة ورجال الإعلام، لدراسة الظروف المحيطة لإنجاح مشروع فيدرالية الأردن وفلسطين، ووضع الأفكار والخطط العملية وتهيئة الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني والأردني كمرحلة أولى من مراحل التنفيذ العملي للخطة الأردنية التي تلقى قبولا متزايدا داخل البلاط الهاشمي وأوساط والجيش وأجهزة الأمن التي باتت تعد العدة امنيا وعسكريا لمواجهة جبهتي العراق المنهار من الشرق والسلطة الفلسطينية المنهارة من الغرب. ووفق مجموعة من المراقبين في العاصمة الأردنية، فإن مقدمات إنشاء اتحاد فيدرالي بين الأردنوالضفة الغربية أخذت تشق طريقها على الأرض، وذلك بالاستناد إلى معطيات سياسية وإجراءات إدارية اتخذت فعليا، من بينها صدور قرار ملكي أردني يقضي بتقسيم المملكة الأردنية الهاشمية إلى ثلاث مناطق إدارية منفصلة بصلاحيات واسعة كل منطقة لها برلمانها واستقلاليتها، ما يشبه التحضير للربط بينها وبين ثلاثة كانتونات فلسطينية في الضفة الغربية تتمتع باستقلال كامل في الشمال والوسط والجنوب مشكّلة الكيان الجديد، وإنشاء معابر جديدة على نهر الأردن لخلق تواصل يحقق تكاملا اقتصاديا واجتماعيا بين الضفتين. ومع أن الأوساط الرسمية الأردنية تنفي وجود مثل هذه الخطة، التي تشترط حصول اتفاق إسرائيلي- فلسطيني على إقامة دولة فلسطينية مستقلة أولا، كون الموقف الأردني مازال"ثابتا ولم يتغير... ويقوم على أن مصلحة الأردن العليا في إقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة"، حسب قول الناطق باسم الحكومة ناصر الجودة، فيما تتحاشى أوساط السلطة الفلسطينية تناول هذا الموضوع بشكل علني، فإن ما يجري تداوله في العاصمة الأردنية عمَان يشير إلى أن إعادة إحياء"الفكرة- الخطة"التي تقترح أن يكون العاهل الهاشمي رئيسا للاتحاد الكونفيدرالي إلى جانب كونه ملك الدولة الأردنية، على أن تتألف حكومة فيدرالية من تحتها برلمان منتخب، يكون مكوَناً من ممثلين أردنيين وفلسطينيين، وتكون قوات الأمن تحت سيطرة الحكومة الفيدرالية، وهو شيء يفترض أن يخفف من مخاوف إسرائيل من نشاط قوات عسكرية فلسطينية مستقلة، توكأ على مخاوف صنَاع السياسة الهاشمية من انتقال الصراعات المسلحة بين حركتي"فتح"و"حماس"إلى الضفة الغربية، أو حتى إلى داخل الأردن"وذلك بعد أن أضاءت الحرب الأهلية في قطاع غزة ضوءا أحمر في عمان ورفعت منسوب الخشية من تدفق أعداد واسعة من اللاجئين الفلسطينيين نحو الضفة الشرقية. فضلا عن التقدير بأن خيار الدولة الفلسطينية القابلة للحياة آخذ في التآكل، ليس فقط بسبب الصراعات الفلسطينية المسلحة التي قسَمت شطري الأراضي المحتلة، وعدم قدرة الفلسطينيين على إقناع المجتمع الدولي بقدرتهم على إدارة شؤونهم، وإنما، وبالأساس، نتيجة إصرار إسرائيل على تهويد المدينة المقدسة وضم الكتل الاستيطانية وغور الأردن، والاحتفاظ بالكتل الاستيطانية واستكمال بناء الجدار الذي يقتطع مساحات واسعة من الضفة الغربية، ويحوَل، والمستوطنات، ما تبقى منها إلى نتف غير متصلة جغرافيا، ناهيك عن الإصرار الإسرائيلي على الاحتفاظ بالسيادة الحقيقية على هذه النتف، ما يجعل من دخول الأردن على الخط، وفق هذه المزاعم، ضرورة موضوعية يمكنها أن تعطي زخما لما يسمى"العملية السلمية"، وتعظَم فرص بناء كيان فلسطيني مرتبط بالأردن. تعود فكرة"الخيار الأردني"إلى المرحلة التي تلت حرب حزيران يونيو 1967، حيث تبنتها حكومة حزب العمل، برئاسة ليفي اشكول 1967- 1969، وغولدا مئير 1969- 1974 وإسحق رابين 1974- 1977، وكانت تعني أن يجري حل المشكلة الفلسطينية على قاعدة نقل السيادة على معظم أرض الضفة إلى الملك الأردني. وكان أحد أهم التطورات التي دفعت في هذا الاتجاه رفض الأكثرية الساحقة في حكومة اشكول"خطة ألون"الأصلية التي أعيدت صياغتها في بداية 1968، وتبنت ما عرف مع الوقت باسم"الخيار الأردني". وتقوم الفكرة التي أثارها ألون على أنه، وبدلا من مواجهة القضية المعقدة لإنشاء الحكم الذاتي، يسلَم الأردن المنطقة، وهكذا تعفى إسرائيل من مواجهة المشكلة الفلسطينية. ولم يغيَر ألون الخريطة التي خطها في تموز يوليو 1967 ما عدا إضافة ممر يصل الأردن بالضفة في منطقة أريحا، واقترح أن يظل غور الأردن في يد إسرائيل، وكذلك منطقة غوش عتصيون، وجزء من جبل الخليل والقدس الموحدة، أما ما بقي فيسلَم إلى الملك حسين. ووفق رؤوبين بدهتسور في"هآرتس"، فإن لقاء حاسما تم في أيلول سبتمبر 1968 جمع العاهل الأردني الملك حسين ومستشاره المقرب زيد الرفاعي والوزيرين آبا ايبان وييغال ألون في العاصمة البريطانية لندن، حيث أثار ايبان أمام الملك ستة مبادئ لخصت رؤية إسرائيل للتسوية السياسية مع الأردن، من بينها نزع السلاح في الضفة، ونشر قوات من الجيش الإسرائيلي في غور الأردن، وأن تكون القدس موحدة تحت سيطرة إسرائيل وإقامة سلطة مشتركة للاجئين. كما عرض ألون خريطته التسووية التي ينبغي أن"تظل سارية المفعول إلى الأجيال المقبلة"كون الأردن"خسر الحرب وعليه تحمَل النتيجة". أما رد الحسين فقد جاء بعد بضعة أيام من خلال وثيقة تتألف من ستة مبادئ أيضا، من بينها أن"الأردنيين يقبلون مبادئ القرار 242، ومن ضمنها إقرار بأنه لا يجب امتلاك الأرض بالقوة. وأن أية تغييرات لخطوط وقف إطلاق النار يجب أن تكون على أساس متبادل". وفي تناوله القدس، قرر أن"أقصى ما يمكن أن نكون مستعدين للموافقة عليه هو الاعتراف بحق إسرائيل في الأماكن المقدسة لليهود". تنتهي الوثيقة الأردنية كما يلي:"تتعلق قدرتنا على الإسهام في التسوية تعلقا تاما بقدرتنا على السيطرة على الوضع الداخلي في الأردن وقدرتنا على بيان التسوية للعالم العربي. لذا يجب أن يكون كل اقتراح يتم بحثه اقتراحا يستطيع العالم العربي قبوله، لا اقتراحا يُفرض علينا"، وهو ما عنى للإسرائيليين بأن"الخيار الأردني"غير قابل للتحقيق آنذاك. في الخامس عشر من آذار مارس 1972، عاد الملك حسين ليقترح توحيد الضفتين في إطار"المملكة العربية المتحدة"، وهو ما رفضته منظمة التحرير، قبل أن يثير العاهل الأردني في حزيران 1977 اقتراح الوحدة الفيدرالية الذي افترض، هذه المرة، أن تتشكل من المملكة الهاشمية الأردنية ومن الحكم الذاتي في الضفة، وترفض من قبل عرفات أيضا. ليلي ذلك إنجاز"اتفاق لندن"في 1987 بين الملك حسين ووزير الخارجية الإسرائيلية، حينذاك، شمعون بيريس، والذي أحبطه رئيس الحكومة اسحق شامير قبل اندلاع الانتفاضة الأولى التي دفعت الملك إلى اتخاذ قراره الشهير بالانفصال عن الضفة، في تموز 1988. ومع التوقيع على اتفاقات اوسلو في 1993 أعادت الحكومة الإسرائيلية، برئاسة اسحق رابين، الذي كان رئيس الأركان في 1967، سياسة تل أبيب المتعلقة بالقضية الفلسطينية إلى نقطة البداية، واستقر رأي رابين على الاعتراف بشرعية منظمة التحرير ممثلة للشعب الفلسطيني وتوقيع اتفاق معها. وفي تشرين الأول أكتوبر 1994، وقع اتفاق السلام بين إسرائيل والأردن، غير أن الانتفاضة الثانية قطعت المسار المفترض، وتم دفع"الخيار الأردني"مرة جديدة الآن إلى الفراغ الذي نشأ في المسيرة السياسية منذ أيلول 2000. وعادت الدائرة الثانية للخيار الأردني وفتحت من جديد. في كل الأحوال، ثمة من يعتقد، على الضفتين الفلسطينية والأردنية، أن الإخفاق في مواجهة الإسرائيليين ومخططاتهم التي سبق وأن جرى التعبير عنها، في أكثر من مناسبة، يتطلب جنوح الجانبين إلى التنسيق والتفاهم لتجنب السيناريو الأسوأ. إذ في ظل غياب أية حلول سياسية وعملية لتلبية حقوق المواطنة للفلسطينيين وحاجاتهم الاقتصادية، فإن الوضع يمكن أن يتفكك بحدوث انهيار على الجبهة الإسرائيلية- الفلسطينية، وبمواجهات مسلحة يمكن أن تفضي إلى اجتياحات إسرائيلية مؤلمة، فيما ستتعزز حظوظ وقوع موجة لاجئين جديدة يتورط الأردن فيها، بالإضافة إلى توترات خطيرة، إن لم يكن صراعا، على الساحة الداخلية الأردنية .ولعل المسألة الأكثر حساسية هنا هي ليس فقط ما إذا كان فلسطينيو الضفة الغربية يمكن أن يدفعوا لقبول مثل أي نوع من"الحلول القسرية"، بل ما إذا كان وضع الضفة الشرقية يسمح بذلك، لاسيما في ظل الشكوك القديمة بالنوايا الهاشمية تجاه الفلسطينيين، في مقابل معارضة العديد من"الشرق أردنيين"الذين يخشون من انقلاب الميزان باتجاه الفلسطينيين بشكل كبير في حال حدوث موجات جديدة من هجرة الفلسطينيين نحو الشرق، ناهيك عن عدم تصور إذعان السوريين والمصريين والسعوديين لهكذا سيناريوهات تصب في خانة تعزيز القوة الإسرائيلية الإقليمية على حساب العرب ومصالحهم القومية والوطنية. * كاتب فلسطيني.