بعد "انتكاسة" معسكر الاعتدال على الجبهتين الفلسطينيةواللبنانية، يعكف الأردن الرسمي على "ضبط إيقاع" استراتيجيته لحماية مصالحه في شرق أوسط جديد تتصارع وتتقاطع فيه واشنطن وطهران لبسط نفوذهما على أنقاض القضية الفلسطينية. يفاقم الوضع تناقض قناعات ومعلومات صنّاع القرار في المنطقة العربية حول ما يصنع ويصاغ في واشنطن وتل أبيب وطهران ودمشق في الإقليم المتغيّر وسط حراك يدل على فرز عشوائي حيناً أو استراتيجي مرسوم بدقة، أحياناً أخرى. المراجعة الحالية، بحسب مسؤولين، لن تفضي الى تحولات جذرية كما تطالب المعارضة بقيادة الإسلاميين مثل تطبيع العلاقات مع حركة"حماس"و"حزب الله"اللذين باتا يملكان الثلث المعطل في الحكومة الفلسطينيةواللبنانية على حساب استراتيجية الدولة الأردنية العليا وعمادها علاقات قوية مع الولاياتالمتحدة، وشبكة علاقات عربية ودولية. لكن المراجعة ستساعد عمان على التعامل مع الاشتباك السريع في العلاقات بين دول وقوى سياسية محسوبة على خندقي إيران وأميركا في إقليم باتت تسوياته المتداخلة تتم على حساب الملف الفلسطيني، الذي يعتبره الأردن هدفاً وأساساً لضمان الأمن والاستقرار في بلد نصف سكانه من أصول فلسطينية وغالبيتهم لم يحسم بعد أمر هويتها السياسية بانتظار الحل النهائي. فكل الدول والقوى تتنافس على التموضع الملائم بما يضمن تقوية نفوذها والتأثير في صوغ ما يسمّى"بالصفقة الكبرى"المقبلة في عهد الإدارة الأميركية الجديدة. وهي تشمل ضمانات أميركية وإيرانية وتفاهمات سورية ? إسرائيلية أساسها كلها بقاء الأنظمة وعدم عزلها والاعتراف بديمومتها. يشعر الأردن الرسمي بفشل رهانه على الإدارة الأميركية الحالية والاتكاء على مقاربات دول عربية مؤثّرة في الملفات العالقة في فلسطين والعراق ولبنان. كذلك لم يثمر الجهد في التأسيس لعلاقات أفضل مع إيران قائمة على تبادل الاعتراف بالأدوار الإقليمية وبمصالح الطرفين في شرق أوسط مستقر. الأردن كان يرغب في مقايضة تسوية تاريخية للصراع العربي -الإسرائيلي تفضي الى قيام دولة فلسطينية مستقلة تظل أساس الأمن والاستقرار في المنطقة ومفتاحاً لإطفاء الأزمات الإقليمية الأخرى المتداخلة معها مع موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني نوفمبر، وذلك مقابل الحد من نفوذ إيران الإقليمي. لكن المتغيرات الاقليمية المتلاحقة عكست"تراجع الدور الأميركي" لمصلحة إيران وحلفائها، ولمصلحة دول صغيرة مثل قطر، وكبيرة لكنها غير عربية مثل تركيا، بحسب تحليلات مسؤولين أردنيين. فالرئيس الأميركي جورج بوش فشل في اقتناص ما سمّاه الأردن"الفرصة الأخيرة"لإنجاز الدولة الفلسطينية خلال الأشهر السبعة المتبقية من ولايته، بخلاف ما طالب به الملك الأردني عبدالله الثاني مراراً. وما زالت واشنطن ترفض لعب دور الوسيط النزيه لإجبار إسرائيل على وقف الاستيطان وقبول تسوية طبقاً للشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية المدعومة إسلامياً. انسداد الأفق أمام حل الدولتين، وهو أساس الاستراتيجية الأردنية لحماية مستقبل المملكة وهويتها السياسية، سيفتح الباب أمام مطالبات مصيرية أميركية وإسرائيلية ترفضها عمّان بشدة للعب دور مباشر أمني وإداري في ما تبقى من أراضي الضفة الغربية المقطعة الأوصال عبر بوابة ما يسمى ب"الخيار الأردني"أو الدخول في كونفيديرالية أو فيديرالية مع دولة فلسطينية موقتة. ثم جاءت"صلحة الدوحة"بين الإخوة الأعداء اللبنانيين في بلد أقرب الى الفلك الإيراني. هذه العملية منحت"حزب الله"دوراً سياسياً جديداً في لبنان، بالتزامن مع إعادة أحياء المسار السوري - الإسرائيلي بوساطة تركية بدلاً من الأميركية. الملك عبدالله الثاني سعى أيضا لتقريب سورية من"الحضن العربي"، لكن جهوده لم تفلح إلا في تحسين العلاقات الثنائية التي تأزمت لأربع سنوات بسبب الاصطفافات الإقليمية. ترافق ذلك مع بدء الرياض والقاهرة، اتصالات مع حركة"حماس"لتحقيق مصالحة مع السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة الرئيس عباس والعمل على إنجاز هدنة بين إسرائيل و"حماس"تبدأ في قطاع غزة. بعد انهيار الحديث عن تسوية سلمية قبل نهاية 2008، يحتدم السجال السياسي والإعلامي حول السياسة الخارجية الأردنية بين من يدعو الى مراجعة السياسات الخارجية والداخلية المتأثرة بالأوضاع الإقليمية وبين من يستنكر تلك الدعوات على أساس أن السياسة العليا بأصولها وفروعها، تسير في الاتجاه الصحيح، شهد الأردن قبل أيام لقاء بين لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان ووزير الخارجية د. صلاح البشير تخلله انتقادات مباشرة من النواب بسبب ما اسماه البعض"تراجع" دور الأردن المحوري في المنطقة. ودعا عدد من النواب الى إجراء مراجعة شاملة للسياسة الخارجية بما فيها ضرورة الانفتاح على سورية و?"حماس"بحيث يقوم الأردن بتنظيم مصالحة شاملة بين"فتح"و?"حماس"لأنه الأقرب الى الساحة الفلسطينية بحكم الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ. من جهته طالب النائب الأول لرئيس مجلس النواب الأردني ممدوح العبادي في لقاء مع"الحياة"بضرورة"قيام الحكومة"بتوسيع هوامش المناورة الديبلوماسية للتلاقي مع جميع الفاعلين في الإقليم المتغير". وقال العبادي:" استغرب الدعوات التي تطلق لنقل البندقية من كتف محور الى كتف بهذا اليسر والسذاجة ما يدل على دونكيشوتية سياسية. إذ أن القفز في الهواء ليس من عادة الدولة الاردنية التي تضع مصلحة الوطن العليا قبل المصالح الفئوية أو العقائدية". وقالت أوساط أصحاب القرار الأردني ل"الحياة"إن المتغيرات المتلاحقة التي هزّت الإقليم لا تجبر الأردن على تغيير استراتيجيته الأساسية والاستدارة 180 درجة. لكن هنالك توجّهاً سيأخذ بعض الوقت"لضبط إيقاع تدريجي"لبعض تفاصيل الاستراتيجية العليا وصولاً إلى الانسجام والتعامل مع تغيرات عميقة ضربت ثلاث مناطق حساسة تعني الأردن وهي لبنانوفلسطين والعراق، إضافة الى تطوير العلاقات مع إيران. وتتابع المصادر أن تطويع بعض تفاصيل الاستراتيجية الأساسية المدعومة بشبكة ارتباطات دولية وإقليمية تساعد الأردن على البقاء في دائرة التأثير السياسي والاستراتيجي خصوصاً تلك التي تؤثر عليه مباشرة بما يضمن تعايش الأردن الرسمي وجميع القوى الفاعلة فيه وحوله، وصيانة المصالح والارتباطات الدولية والإقليمية، وتقليل مساحات الاختلاف والخصومة. ويبقى عماد الاستراتيجية الأردنية الثابتة علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية متينة مع الولاياتالمتحدة قائمة منذ ستين سنة، ومعاهدة سلام مع إسرائيل منذ عام 1994 حدّدت بموجبها الحدود، وساهمت في دفع جهود الأردن باتجاه السلام الشامل على جميع المسارات وأساس هذا السلام قيام دولة فلسطينية مستقلة. ويظل الأردن متكئاً على موقعه الاستراتيجي وعناصر قوة أخرى يستمدها من شبكة علاقات دولية وإقليمية يمتلكها بالرغم من محدودية موارده الطبيعية، والكثافة السكانية والقوة العسكرية. ويقول أحد المسؤولين إن المراجعة الأخيرة لا تعني ان الأردن سيجمد معاهدة السلام أو يقفز الى الحضن الإيراني كما تنادي بعض الأحزاب والأصوات المؤثرة في الرأي العام. كما أنه لن يفتح أية اتصالات مباشرة مع حركة"حماس"في فلسطين أو"حزب الله"في لبنان. "فعمّان تظل متمسكة بالتعامل مع المؤسسات الشرعية الرسمية اللبنانيةوالفلسطينية وليس مع أفراد وجماعات وتنظيمات دخلت في مكونات الحكومة سواء كانت محسوبة على إيران أو غيرها"."والحال ينطبق على فلسطين، في حال جاءت الانتخابات الرئاسية مطلع 2009 برئيس من أي فصيل فلسطيني" ويضيف:"في حال اضطرت الدولة الأردنية الى التعامل مع تحديات أمنية متكررة مصدرها"حماس"أو"حزب الله"، فإنها ستعالج ذلك مع كل من الدولة اللبنانية ومؤسساتها الرسمية ومع السلطة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها الشرعية المسؤولة عن السيطرة على نشاطات هذه القوى". لكن عمان لن تفتح أبداً مفاوضات مباشرة مع هذه القوى لأنها لا تشجع على إرساء سوابق تسمح لدول خارجية التحدث مباشرة مع قوى سياسية موجودة في الأردن مثل الإخوان المسلمين الموالين لحماس. كذلك تتمسك بضرورة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة والمتواصلة جغرافياً، وهذا ما جدّده الملك عبد الله الثاني في خطابه الأحد بمناسبة ذكرى الاستقلال الثانية والستين. وستظل عمان تدفع باتجاه إنجاز الدولة الفلسطينية المستقلة لأنها معنية بمعرفة الحد الأعلى الذي تستطيع الإدارة الأميركية الحالية الوصول إليه في ديبلوماسيتها مع إسرائيل. وفي لقاء مع رؤساء وزراء سابقين ورؤساء كتل برلمانية يوم الثلاثاء الفائت قال الملك عبدالله:"اننا لا نخشى على مستقبل الأردن، وإن كان هناك مؤمرات ضد الوطن فهي موجودة منذ عهد الملك المؤسس وقد واجهها الأردن بعزيمته ووحدة شعبه وتماسك جبهته الداخلية".