لا تكشف استطلاعات الرأي التي تشهدها الولاياتالمتحدة اليوم عن تفوق قاطع لأي من الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فسواء كان المرشح الديموقراطي باراك أوباما أو هيلاري كلينتون، بوجه المرشح الجمهوري العتيد جون ماكين، فإن الأرقام تفصح عن أن التأييد لكلا الحزبين في أوساط الناخبين متقارب، وأن الأشهر القليلة المقبلة مهيأة أن تشهد تذبذبات في الاتجاهين قبل أن يرسو خيار الجمهور الناخب على أحد الطرفين، وأن ذلك الخيار سوف يتحقق بفارق ضئيل في المجموع العام للأصوات. ورغم أن هذا التقارب لا يختلف بين مواجهة لماكين مع أوباما أو ماكين مع كلينتون، فإن المعطيات الموضوعية تدفع جهات جمهورية مختلفة إلى ترجيح تفضيل مواجهة كل من أوباما وكلينتون في الانتخابات القادمة، وإن اقتصر هذا التفضيل أو افترض أن يقتصر على التمني. ولا شك اليوم، على مستوى الإعلام كما على مستوى الثقافة، أن باراك أوباما يشكل ظاهرة في السياسة الأميركية، فهو رجل السياسة الفصيح والوسيم، الشاب والأسود، وصاحب الخطاب التقدمي والدعوة إلى التغيير، فقدرته على التحفيز والتعبئة واسعة النطاق. وبالفعل، سواء كان المعيار حجم التبرعات لحملته الانتخابية من العموم، أو نجاحه القاطع في استقطاب الفئات العمرية الشابة، فإن أوباما يتمتع بزخم واضح ما زال يتصاعد. وخير دليل على استمرار هذا التوجه ليس وحسب حصده المتواصل للولايات الصغيرة بل تمكنه من انتزاع ولاية كبيرة هي تكساس من هيلاري كلينتون، بعد أن سادت التوقعات بأن تفوز كلينتون بها بوضوح. فأوباما اليوم، إذ تتبقى عشر ولايات في الانتخابات الحزبية التمهيدية لاختيار المرشح الديموقراطي، أهمها ولاية بنسيلفانيا، مستمر بتقليص الفارق بينه وبين كلينتون في هذه الولاية الكبيرة، فيما هو شبه ضامن لفوز واضح في سائر الولايات الصغيرة. ثمة من يرى هنا أن هيلاري قد بلغت حدّها الأقصى في قدرتها على استقطاب الناخبين، فيما أوباما لا يزال في طور اكتساب التأييد، وإذا سنحت له الفرصة، أي إذا فاز بترشيح حزبه، فإن هذا الزخم سوف يسير به باتجاه اختراق قواعد الحزب الجمهوري، ولا سيما منها الفئات العمرية الشابة. والمسألة العمرية موضوع شائك بالنسبة لجون ماكين. فماكين، في حال تمكن من الفوز في تشرين الثاني نوفمبر المقبل، سيكون أكبر الرؤساء الأميركيين على مرّ التاريخ سنّاً يوم توليه الحكم. بل ان حاجة ماكين إلى تعبئة المحافظين الاجتماعيين قد ترغمه على اختيار أحد الوجوه المعروفة بتأييدها لمواقفهم ليكون شريكه في الانتخابات لمنصب نائب الرئيس، ومعظم هؤلاء من المتقدمين في العمر نسبياً. فمن جملة الأسماء التي طرحت، مثلا، المرشح الجمهوري السابق فريد تومسون. فلو اختار ماكين تومسون، أو أي شبيه به، وكان أوباما المرشح الديموقراطي، لظهرت المعركة الانتخابية وكأنها مواجهة بين جيلين، أحدهما شاخ وهرم، والآخر في مقتبل العمر والطاقة والاستعداد للتغيير. ولو كان اختيار أوباما يومها لوجه شبابي كشريك لمنصب نائب الرئيس، لصحّ أن يكون شعار حملته الانتخابية"آن الأوان لجيل جديد"، وهو شعار لا شك أن الجمهور الأميركي على استعداد أن يتلقفه. فالاستطلاعات تفيد بأن هذا الجمهور أقل تردد وحذر في اختيار مرشح رئاسي يكون أسود أو امرأة من أن يكون متقدماً في السن. فالجمهوريون الذين يخشون تضاعفات المسألة العمرية يفضلون بالطبع أن تكون المواجهة مع هيلاري كلينتون، والتي تتقلص معها أهمية هذه المسألة وتنفي للديموقراطيين إمكانية طرح المواجهة بصيغة جيلية. غير أن ثمة من يرى أن الزخم الذي حققه أوباما في تعبئة الفئات العمرية الشابة لصالحه تواجهه في المقابل ردة فعل سلبية في العديد من الشرائح الوسطى"البيضاء"، وإن كانت هذه السلبية خجولة، أي غير مفصح عنها بوضوح في استطلاعات الرأي والتي تعبر عن الصورة الذاتية للمجتمع الأميركي أكثر منها عن الواقع الفعلي. فالرهان هنا هو أن أوباما سوف يخسر عرقياً ما كسبه جيلياً. وقد يصح هذا التقييم في بعض الأوساط والمناطق، غير أن أوباما يقدم كذلك طرحاً للصلح الأميركي مع الذات يلاقي تجاوباً لدى العديد من الأميركيين"البيض"الراغبين بتسوية معنوية للمسألة العرقية. ثمة خشية إذاً من أن يتمكن أوباما من تحويل ما يبدو للوهلة الأولى وكأنه نقطة ضعف، أي انتماؤه العرقي، إلى عنصر قوة، ولا سيما من خلال قدراته الخطابية المشهودة، لحشد جمهور واسع توّاق إلى تجاوز الحقبة المظلمة من التاريخ الأميركي والذي شكلته عبودية الأفارقة الأميركيين. لكن، وعلى الرغم من أن أوباما يطرح نفسه بلغة توافقية تصالحية جامعة، فإن لدى الجمهوريين مادة خصبة قابلة للتوظيف لتفكيك هذا الطرح، وهي انتساب أوباما على مدى عقدين لكنيسة أفريقية أميركية ثابر القس في عظاته فيها على اتخاذ مواقف خارجة عن المتداول المقبول في الثقافة الأميركية العامة، بما في ذلك إدانة الولاياتالمتحدة وشتمها، دون أن يعترض أوباما على هذه المواقف، بل إن هذا القس كان من المقربين من أوباما والمؤثرين عليه إلى أن أشاعت وسائل الإعلام مواقفه. وإذا كانت هيلاري كلينتون عاجزة عن استخدام هذا الموضوع، التزاماً منها بروحية الحزب الديموقراطي الداعي إلى التسامح الواسع في حرية التعبير، فإن الجمهوريين من شأنهم أن يجعلوا من"الاعتزاز بالولاياتالمتحدة"شعاراً فعلياً لحملة جون ماكين الانتخابية، وهو صاحب السجل المشهود في الخدمة العسكرية، وسليل أسرة قدمت للبلاد التضحيات المتواصلة. فالتشكيك بوطنية أوباما، والتركيز على علاقات مؤكدة أو مزعومة بينه وبين بعض الوجوه المثيرة للجدل من الأفارقة الأميركيين، من شأنه استنفاد الفائدة التي يجنيها أوباما من مواقفه الخطابية الوفاقية التصالحية. والانتخابات الأميركية غالباً ما تقرر على أساس الاعتبارات الذاتية، أي الصفات والسمات الشخصية للمرشحين، لا التفاصيل الموضوعية المرتبطة ببرامجهم الانتخابية وتوجهاتهم السياسية وحسب. فكلما ازداد الظهور الإعلامي للمرشح، كلما ارتفعت قدرته على إبراز شخصيته وحضوره في أذهان الناخبين. وهذا يشكل اليوم عامل ضعف بالنسبة للجمهوريين: فالمعركة لاختيار المرشح الديموقراطي ما زالت مستمرة، مما يعني أن كلا من أوباما وكلينتون يتحدث للجمهور الأميركي يومياً ويرفع من درجة قربه لهذا الجمهور. أما ماكين، وهو المرشح المحسوم جمهورياً، فداعي متابعته إعلامياً متدنٍ. والمتنافسون لمنصب الرئاسة هم اليوم ثلاثة، نصيب ماكين من التغطية الإعلامية منهم هو الأدنى. أما حصص هؤلاء المتنافسين من الجمهور اليوم، فإن حصة ماكين هي المحافظون حكماً، وحصة أوباما التقدميون، فيما حصة كلينتون ذاك الوسط الاجتماعي والاقتصادي المبهم. فهي ليست قادرة كما أوباما على الحشد الجيلي أو الإلهام المعنوي، ولكن أشهر الحضور الإعلامي الطويلة قد تجعل منها مرشحة التسوية في هذا الوسط الذي لا ينضبط في أي معسكر حزبي أو عقائدي. ذلك أن مواجهتها مع أوباما قد دفعت بها، في منظور هذا الوسط على الأقل، لأن تكون التعبير عن التغيير المطلوب دون أعباء العوامل العرقية والتحديات في الولاء الوطني التي قد تصاحب أوباما. ولكن شرط أن تتحقق لكلينتون هذه الفوائد هو بطبيعة الحال فوزها بترشيح حزبها، وهو أمر، وإن لم يكن من المستحيل، ليس اليوم راجحاً. فواقع حال الجمهوريين أن أوباما الظاهرة، رغم ما يشكله من خطر، أكثر عرضة للتجريح والإسقاط من كلينتون في حال خرجت حائزة على ترشيح حزبها وممعنة في الوسطية. فإذا كان ثمة صوت للجمهوريين في اختيار المرشح الديموقراطي، فإن هذا الصوت سوف يميل إلى باراك أوباما.