لن تكون مهمة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، والمتمثلة في الانتقال السريع الى موقع مختلف في الأزمة اللبنانية، سهلة هذه المرة. فالعقبات كثيرة، ومنها ما هو مرتبط بجنبلاط وقاعدته، ومنها ما هو مرتبط بانعدام الثقة به في الطرف الذي يسعى جنبلاط الى الاقتراب منه. فالقاعدة الجنبلاطية ما زالت مستنفرة في وجه"حزب الله"، والدليل على ذلك السهولة التي يمكن ان يتفجر بها أي إشكال في مناطق الاحتكاك بين نفوذي حزب الله وجنبلاط، ولن يتمكن الزعيم الدرزي من تسويق اقترابه من"حزب الله"بسهولة في هذه البيئة. وهو أمر مهم خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية التي تتطلب التحالفات فيها قدراً من الثقة بين القواعد المختلفة التي من المفترض ان تصوّت للوائح نفسها. اذ ان ما جرى في الجبل وفي محيطه في ايار مايو الفائت من وقائع دامية لن يساعد إطلاقاً على وجود تفاهمات انتخابية خارج قاعدة الانقسام التقليدية الراهنة في لبنان، أي 8 و14 آذار. وما يمكن رصده على هذا الصعيد في الأجواء"الاشتراكية"يعزز هذا الافتراض، فقواعد جنبلاط تتعاطى مع تحول خطابه على انه خطوة تكتيكية موقتة لا بصفته تحولاً كبيراً بدأه جنبلاط في أعقاب أحداث 7 أيار، وهي، أي هذه القواعد، غير ملتزمة بميول جنبلاط وبحساباته المستجدة إلا من باب الدعوة الى تفهم المخاوف التي تعتريه، وهو أمر لا يصنع تحالفات في لبنان. يشعر متحري أصداء الخطوات الجنبلاطية في البيئة"الجبلية"ان ثمة مساراً معاكساً تماماً لسعي رئيس الحزب الاشتراكي، اذ ان المخاوف متزايدة هذه الأيام، وتشير تقديرات الى ان هناك استعدادات"غير تقليدية"لاحتمالات تجدد المواجهات التي حصلت في أيار الفائت. وذلك كله يحصل في موازاة"المصالحات"التي باشرها الحزب الاشتراكي وحزب الله برعاية الوزير طلال ارسلان. أما الصعوبة الثانية في وجه"التحول"الجنبلاطي فهي أشد دلالة، وتتمثل في الجهة المقابلة التي يسعى جنبلاط الى محاكاتها في تحوله، وهي تحديداً"حزب الله"، او بالأحرى القاعدة الاجتماعية والطائفية لهذا الحزب. فمن يعرف قليلاً عن المشاعر السائدة في هذه البيئة حيال جنبلاط يدرك حجم الصعوبات التي يمكن أن يواجهها"حزب الله"في حال رغب في أن يلاقي جنبلاط على نصف الطريق أو حتى على ربعه، ناهيك عن انه من الصعب الاعتقاد ان"حزب الله"بصدد قبول عروض جنبلاط بعد سنوات من الخصومة المريرة، من دون أن يعني ذلك تعاليه عن توظيفها. ثم انه كيف يمكن الاقتراب من"حزب الله"أو من أطراف حليفة أخرى له من دون أن تلتقط هذه الأطراف ضوءاً أخضر سورياً يتيح لها الاستجابة. فجنبلاط يدرك قبل غيره ان أي اقتراب من الموقع الذي تمثله القوى القريبة من سورية سيبقى ناقصاً ويتيماً من دون الاقتراب من سورية نفسها، وهي ليست اليوم في وضع صعب يدفعها الى قبول ذلك من دون أثمان كبرى. على رغم كل ذلك يحث جنبلاط الخطى باتجاه تحالف ما كان يسمى المعارضة. الثقة منعدمة مع مختلف اطيافها، لكنه يحث الخطى. والأرجح ان الانتخابات النيابية هي التي تلوح خلف المشهد"التصالحي"في الجبل. فثمة دائرتان انتخابيتان تتداخل فيهما مصالح جنبلاط وحزب الله، وفيهما لن يكون ثمة اثر يذكر للخيارين السياسيين المتمثلين ب14 آذار و8 آذار. يسلف جنبلاط مقعد ارسلان في منطقة عاليه التي يتمتع فيها بنفوذ واسع للمعارضة، وفي مقابل ذلك يهدي حزب الله المقعد الدرزي في بعبدا لجنبلاط، على ان يتم ذلك من خارج التحالفات المعلنة. هذا احد السيناريوات، وثمة تفسيرات اخرى مشابهة لما يجرى من"مصالحات"لا يبدو حتى الآن انها اكثر من تسويات انتخابية. لكن ما يلفت في هذه"المصالحات"السهولة التي ينتقل بها أطرافها من ذروة التحريض والحقن الى ميل لعقد تسويات لا تراعي مستويات الاحتقان الناجمة عن هذا الحقن. ولطالما حسد الزعماء اللبنانيون وليد جنبلاط على قدرته هذه، فبحسب هؤلاء تتيح طبيعة الزعامة الجنبلاطية حركة من هذا النوع، وهو امر ما زال قائماً على رغم المسافة الهائلة بين المشاعر الجنبلاطية وبين خطوات المصالحة، اذ لطالما يُرصد في أوساط هذه القاعدة ميل الى التسامح مع خطوات البيك من دون ان يعني هذا الميل تطابقاً في القناعات ولا حتى في النيات. حزب الله بدوره اكتسب بعضاً من فضائل هذه المعادلة، فالقاعدة الاجتماعية والطائفية التي يمثلها لا يبدو انها تقيده بشروطها، وهي تتيح له مقداراً كبيراً من التحرك خارج دائرة ميولها وتمنياتها. فب"مصالحات"الجبل لا يحاكي حزب الله مشاعر القاعدة التي يمثلها، وهو كان ساهم في"أبلسة"خصومه في وعي قاعدته ثم عاد وقبل في أقل من اسبوع بأن يكون مشاركاً في حكومة كان رئيسها"عميلاً"و"متآمراً"على المقاومة وعلى"مجتمعها". ولم يؤد ذلك الى أي مساءلة له من هذا المجتمع الذي تعرض ل"مؤامرة"من حكومة عاد حزب الله وقبل بأن يشارك فيها. "المصالحات"في الجبل في هذا المعنى ليست أكثر من"مكر متبادل"، وتغلفها مصالح انتخابية، في حين ما زال الاستعداد مستمراً لمسارات غير"تصالحية". وطرفا"المصالحات"يدركان من دون شك الحقائق الفعلية التي تجرى خلف الاجتماعات، لكنهما يدركان أيضاً ان هذه الاستعدادات المتبادلة ليست خروجاً عن سياق رسماه لمصائر"المجتمعين"اللذين يمثلان.