يروج وليد جنبلاط في محيطه وفي «مجتمعه» ان وراء اندفاعته نحو «حزب الله» مخاوف من التمدد الديموغرافي الشيعي نحو الجبل، وأن الاندفاعة هي استباق لاحتمال «وثبة» شيعية مشابهة لتلك التي حصلت في 7 أيار (مايو) عام 2008. إذاً، مادة التحالف الجديد هي نفسها مادة الخصومة، أو من نوعها على الأقل. التقارب بفعل المخاوف، و «حزب الله» يدرك تماماً هذه المعادلة، والأرجح انه يستثمرها الى اقصاها، ففي لبنان الأوراق مكشوفة وكذلك المشاعر وما خلفها من نيات! فنكون والحال هذه أمام معادلة تقوم على المخاوف وسوء النية والتحسب. ليس هذا بيت القصيد في البحث عن مادة العلاقة بين الدروز والشيعة في لبنان، او العلاقة بين الحزب التقدمي الاشتراكي و «حزب الله»، اذ لطالما كان الخبث مركباً رئيساً في العلاقات بين الجماعات اللبنانية، ولكن بيت القصيد هو ما يُستحضر في سياق الترويج لهذا التقارب في طرفي معادلته، وذلك في ظل صعوبة ترويجه وتسويقه لدى الكتلتين الشعوريتين اللتين يسعى كل من الحزبين الى مخاطبتهما. من المؤكد ان المهمة ليست سهلة على الاطلاق، وهذا ما قاله جنبلاط اكثر من مرة، وما هو أدل من قول جنبلاط، ذلك الشريط الذي «تسرب» الى وسائل الإعلام والذي يظهر فيه الزعيم الدرزي محاولاً إقناع مشايخ دروز بضرورة المباشرة ب «المصالحة». وما يجيب به مسؤولون من «حزب الله» حول صعوبة تسويق وليد جنبلاط في حزبهم و «مجتمعهم» صحيح أيضاً، فجنبلاط كان رأس حربة المواجهة مع الحزب في السنوات الفائتة، وحملت تصريحاته وتصريحات مقربين منه قدراً من الحنق الذي لامس حدود القطيعة النهائية ليس مع «حزب الله» فقط، بل مع الشيعة عموماً. اليوم تترافق «المصالحة» مع كلام كثير مستمد من قاموس المواجهة، فيمكنك ان تسمع من مقرب من جنبلاط كلاماً منفوخاً ومبالغاً حول قدرات «حزب الله» وحول صواريخه، ويضيف ذلك المقرب مستعملاً نون الجماعة بأضيق ما يمكن استعمالها: «بالنسبة إلينا وصل الشيعة الى ما بعد خلدة وهم اليوم يتملكون على مشارف القرى الدرزية... هم ديموغرافياً أقوى منا». وفي مقابل هذا يستعمل مسؤولون في «حزب الله» «الانزياح» الجنبلاطي ويسوقونه بصفته إنجازاً يعوض خسارتهم في الانتخابات النيابية. فما لا شك فيه ان نتائج الانتخابات أحدثت ارتجاجاً في قناعات جمهور «حزب الله» وأعادت التساؤلات عن جدوى القوة التي أقنع الحزب جمهوره بأنها وسيلته لبلوغ كل شيء، الى ان وصل الأمر بهذا الجمهور الى الانقياد وراء الحزب بصفته قوة لا تقهر، فجاءت الانتخابات وبددت جزءاً من هذه القناعة. و «حزب الله» يحاول اليوم تعويض ما خسره من معدل استلاب جمهوره بقوته، عبر الإيحاء بأنه تمكن من شق 14 آذار ومن حرمانها من غلبتها. ولعل أبشع صور التقارب بين جنبلاط من جهة، و «حزب الله» وحركة «أمل» من جهة ثانية، هو القاموس المستعمل لتسويق التحالف، فالصور التي تجمع المتصالحين والتصريحات التي يتولى مطلقوها ترويج التقارب، يستظل خلفها شعور عقيم بالتباعد والخوف يتولد منه خطاب كراهية عقيم فعلاً. فالحديث عن أنواع الأسلحة التي بحوزة «حزب الله» في مجتمع النخبة الجنبلاطية لا يرقى الى مستوى الخوف على لبنان، انما الخوف على طوائفه مستثناة منها الطائفة الشيعية، فهؤلاء في الثقافة الجنبلاطية في عهدة «حزب الله» وهو حر بالتصرف بمصائرهم، انه حرفياً ما ورد على لسان واحد من وجوه هذه النخبة، إذ قال في معرض حديثه عن مفاعيل القرار الدولي الرقم 1701 والذي من المفترض ان يكون تطبيقه قد أفضى الى ابتعاد الشبكة الصاروخية ل «حزب الله» في جنوب لبنان الى شمال نهر الليطاني، إن وجود هذه الصواريخ اصبح الآن مهدداً لغير الشيعة من السكان. ففي شمال الليطاني يقيم، إضافة الى السكان الشيعة، مواطنون من طوائف اخرى، من غير المنطقي بحسبه ان يدفعوا أثمان انتشار هذه الصواريخ في مناطقهم، أما الشيعة فهم خارج منطقة مخاوفه. حساسية أخرى تحرك الاندفاعة الجنبلاطية باتجاه «حزب الله» وحركة «أمل» وهي ذلك المركب العميق والغائر والتاريخي الذي يعوق أي دفء في العلاقة بين الزعامة الجنبلاطية وبين المسيحيين في جبل لبنان. فالحقبات التي شهدت تقارباً بين مركبي السياسة في جبل لبنان الجنوبي في تاريخ لبنان الحديث كانت استثناء، في حين كان التنافس والخصومة هما القاعدة. مسيحية الجبل تلغي درزيته، والزعامة الجنبلاطية لطالما سعت اثناء سعيها لتعدي مضمونها الدرزي الى موازنة التفوق الماروني في الأعداد والقدرات. فالقدر الأقلوي لهذه الزعامة أعاق طموحاتها في حقبات كثيرة، ومثل انتكاسة في حقبات أخرى. ولنراجع نتائج الانتخابات الأخيرة والتي من المفترض أن يكون التحالف الذي ضم جنبلاط، فاز فيها، لكن كتلة جنبلاط تراجعت من 18 نائباً الى 11، وهو رقم مرشح للتراجع اكثر في حال استمرت الاحزاب المسيحية في السعي الى استعادة مواقع جديدة لها في القادم من الانتخابات. لعل أبرز ما يمكن استخلاصه من التصور الجنبلاطي للموقع المسيحي في جبل لبنان يتمثل في التذمر من عودة الاحزاب المسيحية على حساب شخصيات كانت بدأت تتكرس خلال فترة غياب هذه الاحزاب القسري، إذ ان تلك الشخصيات وبغض النظر عن مواقع متقدمة لعدد منها، شغلت الفراغ الذي خلفه تهميش السوريين زعماء المسيحيين، إضافة الى إقصائهم احزابهم، فتوسع جنبلاط في منطقة التمثيل المسيحي. والانسحاب السوري، والذي كان لجنبلاط دور فيه من دون شك، أعاد هذه الاحزاب، وإذا كان من المفترض ان يُراعى موقع جنبلاط في هذه العودة، لكن الواقع اللبناني لا يتيح مبالغة في المراعاة. فمكافأة جنبلاط على دوره لا يمكن أن تتم عبر تسليمه زعامة المسيحيين، بل عبر موازنة بين حجمه السياسي وحجمه الطائفي، وهذا ما هو حاصل الآن على كل حال. لكن يبدو أن انتظارات جنبلاط سابقة على التحول المسيحي في إمارة جبل لبنان في القرن الثامن عشر، يوم تبدلت معادلة الإقطاعية الدرزية المرتكزة على رعايا موارنة. لكن اللافت في «الحراك الجنبلاطي» (مع ملاحظة ان تعبير «الحراك» يردنا الى ما ابتكرته النزعة الانفصالية المستجدة في اليمن الجنوبي، بصفتها حنيناً الى جمهورية قبائل اليسار في عدن، وهو حنين مواز ومشابه لحنين جنبلاط المستجد الى ذلك الماضي)، هو سعيه الى مشابهة المسيحيين اثناء ابتعاده منهم، في مقابل تثبيت اختلافه عن المضمون الاجتماعي الذي يمثله «حزب الله» اثناء سعيه الى الاقتراب من هذا الحزب. انها معادلة العودة الى المادة الأولى التي تتشكل منها الطائفية اللبنانية، أي تلك التي سعت الجمهورية بصيغتها الأولى الى استبدالها، او على الأقل تلطيفها بما اعتقدت انها سياسة.