تتداول الأوساط الفلسطينية بإمكان التحول من خيار الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، إلى خيار الدولة الواحدة "ثنائية القومية"، على كامل ارض فلسطين التاريخية إسرائيل/فلسطين، بعد أن تبيّن لهذه الأوساط، عبر مراحل متعددة، عدم نضج إسرائيل للقبول بهذا الخيار، بدءا من تملصها من استحقاقات المرحلة الانتقالية لاتفاق أوسلو 1994 - 1999، مرورا بالاطروحات المجحفة والناقصة التي قدمتها في مفاوضات كامب ديفيد تموز/يوليو 2000، وصولا للتسريبات الصحافية التي بيّنت أن حكومة أولمرت ليست معنية باتفاق حقيقي وعادل نسبيا مع الفلسطينيين. وكانت الصحف الإسرائيلية سرّبت مؤخرا بعض الخطوط العامة لما يمكن أن توافق عليه مثل هذه الحكومة، وتتمثل بتأجيل ملف القدس، ورفض أي تبعات تتعلق بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، وضم 7 بالمئة من مساحة الضفة، من دون احتساب منطقة القدس الكبرى والأغوار"ما يعني عمليا ضم حوالى 35 40 بالمئة من مساحة الضفة إلى إسرائيل. وما نقصده هنا أن التداول بمثل هذا الخيار لم يعد يقتصر على مجموعات من المثقفين، والعاملين بالشأن السياسي العام، وإنما بات في متناول الطبقة السياسية السائدة، حتى أن الرئيس محمود عباس بات يتحدث عن مثل هذه الاحتمالية في الأوساط المقربة منه"بل إن أحمد قريع رئيس الوزراء الفلسطيني السابق وأحد قياديي حركة فتح صرح مؤخرا، وبشكل علني، بإمكان التحول نحو مطلب البقاء في دولة واحدة"ثنائية القومية""ردا على التملصات الإسرائيلية. لكن على الرغم من أهمية كل ذلك، وأهمية التقاط القيادة الفلسطينية لعقم الإطار الحالي للمفاوضات، فإن مشكلة هذا التحول أنه يأتي بمثابة ردة فعل على السياسة المتعنتة والإرهابية التي تنتهجها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، أكثر من كونه يأتي في سياق دراسة فلسطينية معمقة للخطوات التي يمكن اتخاذها للسير في هذا التحول، من مثل حلّ إطار السلطة، لوضع إسرائيل أمام مسؤولياتها كدولة احتلال، أو ربما الإبقاء عليها كإطار تمثيلي في الإطار السياسي الثنائي، مثلا. كما إن هذا الأمر يحتاج إلى مزيد من النقاش العام، لدراسة سلبياته وإيجابياته، وتحويله إلى ثقافة سياسية عامة، تتعلق برؤية الأخر، والعلاقات المستقبلية معه، وأشكال النضال الممكنة والمناسبة لتحقيقه، هذا فضلا عن أن هذا التحول يحتاج إلى إقراره في المؤسسات القيادية والتشريعية. في كل الأحوال فإن التلويح بهذا الخيار إن أحسن استثماره، ربما يضفي ملامح جديدة على الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فهو، أولا، قد يمهّد لتحول استراتيجي في الصراع التفاوضي بين هذين الطرفين، من صراع على الأرض إلى صراع على البشر، أيضا، كونه يشتمل على تفكيك المشروع الصهيوني في إسرائيل ذاتها"وهو ثانيا، ينقل الفلسطينيين إلى مرحلة سياسية مختلفة، وربما إلى وضعية الهجوم السياسي، خصوصا في ضوء التراجع في مكانة إسرائيل على الصعيد العالمي، في ظل بناء"سور برلين"أو نظام أبارثايد جديد، وفي ظل الجرائم التي ترتكبها بحق الفلسطينيين"وهو ثالثا، يحول خيار الدولة"ثنائية القومية"من كونه مجرد خيار يتبناه عدد من الأكاديميين والمثقفين والسياسيين، في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، إلى خيار مطروح للنقاش في الإطارين الرسمي والشعبي. وبرغم ذلك فإن تسليم الفلسطينيين باستحالة إقامة دولة لهم، قابلة للحياة وذات تواصل إقليمي فوق 22 بالمئة من أرضهم التاريخية، بعد 34 عاما على قبولهم بالحل المرحلي، وبعد تجربة خمسة عشر عاما على اتفاق أوسلو، وبعد كل التملّصات الإسرائيلية من استحقاقات التسوية، لا يعني أنهم يسلّمون بهزيمتهم إزاء المشروع الصهيوني، فهم بخيار الدولة ثنائية القومية يوسّعون مفهومهم للصراع مع هذا المشروع، من الصراع للانفصال في جزء صغير من أرضهم، إلى الصراع للتعايش على كامل من أرض فلسطين التاريخية، ومن الصراع في الإطار السياسي فقط، إلى الصراع في مجال حقوق الإنسان والحقوق المدنية وحقوق المواطنة، أيضا، لا سيما أن خيار الدولة ثنائية القومية يدمج بين حقوق الأفراد والحقوق القومية. واضح أن الفلسطينيين سيخسرون بخيار الدولة ثنائية القومية حلمهم ومطلبهم بالدولة المستقلة المفترضة، لكن هذه الخسارة المرحلية ستعوض بالربح على المدى الاستراتيجي، فالفلسطينيون من خلال هذا الخيار سيحفظون وحدة أرضهم التاريخية ويحققون وحدة شعبهم. أما من وجهة نظر الصراع ضد المشروع الصهيوني فإن هذا الأمر، إذا احسن ادارته، يمكن أن يشكل هزيمة تاريخية، ولو غير مباشرة، لهذا المشروع، فالدولة"الثنائية القومية"هي نقيض مشروع الدولة اليهودية الصهيونية، وقد تخلق المجال، لاحقا، لفتح مسارات تحول الدولة الثنائية إلى دولة لكل مواطنيها، أو إلى دولة ديمقراطية علمانية. ولكن ما ينبغي التنويه إليه هنا هو أن خيار الدولة الثنائية القومية أصعب بكثير من خيار الدولة المستقلة بالنسبة للفلسطينيين. فإذا كان حزبا العمل وكاديما مع خيار الدولة الفلسطينية، لأنه يتيح لإسرائيل التخلص مما يسمى بالخطر الديمغرافي الفلسطيني، ويحفظ طابع إسرائيل كدولة يهودية، وإذا كان الليكود بات يتجه، إلى حد ما، نحو تبني أطروحة الدولة الفلسطينية، على أقل مساحة ممكنة من الأرض الفلسطينية، فإن خيار الدولة ثنائية القومية مرفوض تماما من غالبية الطيف السياسي الإسرائيلي، لأنه بالنسبة لهم يعني تقويض الصهيونية، وتقويض يهودية إسرائيل، في آن معا"وهو أمر يخشاه الإسرائيليون ويرفضونه تماما. لذلك فإن الإجماع الإسرائيلي سيظل متركزا على خيار الانفصال عن الفلسطينيين، بالاتفاق معهم أو من دون ذلك، أي بشكل أحادي، لان هذا الخيار يضمن لهم تحقيق الميزات التالية: أولا، التخلّص من الخطر الديموغرافي، والحفاظ على الطابع اليهودي لإسرائيل. ثانيا، التحرر من العبء الأمني والسياسي والاقتصادي والأخلاقي، الذي أنتجه واقع الاحتلال وواقع صمود الفلسطينيين ومقاومتهم العنيدة له. ثالثا، تحسين صورة إسرائيل على الصعيد الدولي، بعد أن باتت تظهر كدولة مستعمرة تمارس التمييز العنصري والقوة ضد أهل الأرض الأصليين. رابعا، الحفاظ على صدقية إسرائيل كدولة ديمقراطية في المنطقة. خامسا، التساوق مع الاطروحات الأمريكية المتعلقة بالترتيبات الشرق أوسطية. على ذلك فإن خيار الدولة ثنائية القومية، بدوره، يستدعي الفلسطينيين للانخراط في صراع طويل ومضني ومعقد من أجل فرضه، فثمة فرق نوعي بين طرح الفلسطينيين لهذا الخيار بعد نيلهم حقهم بتقرير مصيرهم، وبين طرحهم له قبل ذلك. بمعنى أن طرح هذا الخيار، في المعطيات الحالية، يتطلب من الفلسطينيين التخلي عن مطلبهم الخاص في الاستقلال، والقبول، أيضا، بالتضحية المتمثلة بالخضوع لقانون المحتل الإسرائيلي، القائم على القوة والتمييز العنصري ضد أهل الأرض الأصليين"ولعل تلك هي واحدة من أهم إشكاليات هذا الخيار. عموما فإن الحديث عن خيار الدولة ثنائية الفلسطينية يمكن اعتباره بمثابة النقلة النوعية الثالثة في مسار الفكر السياسي، الذي انتقل من هدف التحرير الكامل مع انطلاقة العمل الوطني في منتصف الستينيات إلى خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع منذ منتصف السبعينيات. السؤال الآن، متى تحسم القيادة الفلسطينية أمرها للخروج من دوامة المفاوضات العبثية والمهينة؟ وهل أن هذه القيادة تعد نفسها فعلا لمعادلات جديدة، بعد ان ثبت أن المعادلات السياسية التي اشتغلت عليها خلال العقود الماضية، ثبت عقمها؟ م أن الأمر ليس إلا ردة فعل وتصريحات عابرة لا أكثر؟! * كاتب فلسطيني