تثير زيادة الأسعار الغذائية نزاعاً جديداً بين الشمال والجنوب. فهي تدعو الدول كلها الى الانغلاق على نفسها. وفي الأثناء تتعاظم مسألة الهجرة من بلدان الجنوب الى الغرب. والأميركيون يقولون اليوم أنهم بدأوا يسيطرون على الوضع في العراق، وأن الإرهاب أخذ في التقلص في 2008. ولكن الأزمة الاقتصادية، والأزمة البيئية، تتبوآن مكانة متصدرة في العلاقات والنزاعات الدولية. والشاغل البيئي والطاقي ليس جديداً: فمنذ وقت طويل يقول مراقبون كثر ان استهلاك البلدان الأخرى على الشاكلة الأميركية يفوق طاقة الأرض ومواردها. ولكن مكانة المسائل هذه المركزية في العلاقات الدولية مستجدة، ولا عهد للأطر الدولية بها من قبل. وأنا أميل في المسائل الاستراتيجية الى معالجات تكتيكية تقوم على الالتفاف. فأنا لا أحسب، على سبيل المثال، ان تغيير النظام الروسي متاح، وانما في وسعنا، بل فرض علينا وواجب أن نظهر تضامننا ومن يضطهدهم النظام الروسي. وعلينا ألا نتردد في منازعته النفوذ بإزاء جيرانه الذي هم جيراننا، ويتهدد استقلالهم، ولا في تقليل تعويلنا عليه في موضوع الطاقة، ولكنني لا أرى استراتيجية معقولة وقابلة للتصديق في شأن معالجة أزمة الاستهلاك الأوروبية، والفساد المستشري، وأزمة الرأسمالية الأخلاقية. والحل الثوري المنتظر لن يأتي. وفي شأن المنظمات العالمية، لا شك في جدارة البرازيلوالهند بعضوية مجلس أمن الأممالمتحدة الدائمة. ولكن الدول لن تجمع على الأمر، فكل دولة تتمسك بامتيازاتها. وعلينا ألا نتوقع من المجتمعات بذل جهود تفوق تلك التي تبذلها الدول. والمصاعب البيئية الوشيكة تؤذن بإصابة أنماط العيش وأشكاله وطرائقه. والحق ان المراقب غير واثق أبداً من اقبال الأميركيين طوعاً وسريعاً على التخلي عن تبديدهم موارد الطاقة. ولا ريب في امكان القيام بإصلاحات داخلية ضيقة في عدد من البلدان، ولكن لا الحكم السديد المركزي، ولا حوكمة المجتمعات المدنية، يتيحان تصوراً لمعالجة المشكلات هذه. وتفضي مسائل مثل مسألة الموارد الطبيعية، أو مثل نمط العيش، الى ارتسام أفق الكارثة ومداهمتها. ولا يرى المراقب كيف يسع فن المساومة الديبلوماسية إنقاذنا من هذا. والكوارث محور نزاع وكفاح سياسيين بارز ومركزي. وغداة الزلزال في الصين أيار/ مايو 2008، اهتز المجتمع الصيني وخضته الحادثة خضاً قوياً، واتهم السلطات بالمسؤولية عن هشاشة المباني المدرسية. وروسيا قوة كبرى ما دام سعر النفط مرتفعاً. ولكنها تشكو أزمة سكان قاسية تناقص عدد السكان، وانتشار استهلاك الكحول المفرط، والفساد، ومسائل أخرى كثيرة. ولا ريب في ارتقاء الصين الى مرتبة القوة الكبرى بخير الارتقاء هذا وشره. وعلى خلاف الصين، لا يسع روسيا التعويل على ارتقائها الى المرتبة هذه. وإذا استمرت أسعار النفط وقتاً طويلاً على الارتفاع هذا، أو إذا تخطته، فلا شك في أن روسيا لن تعدم فرصة استثمار الفوائض هذه وتوظيفها. فمواردها الاجتماعية لا تقارن بموارد دبي الاجتماعية على سبيل المثل. وفي آخر المطاف، يبدو اطار العلاقات الدولية وفهمها، السابق، مختلاً وقاصراً عن تأويل أحوالها الجديدة. ومن القضايا التي ترتدي حلة جديدة قضية التفاوت الاجتماعي المتعاظم. فقبل أعوام، استبق بيار ? نويل جيرو كاتب"العالم المتفاوت"، باريس، 1996، ظهورها، وشرح طورها الجديد. فقال ان التفاوت الاجتماعي تقلص في المجتمعات الغربية، وتعاظم بين أغنياء العالم وفقرائه. وأما اليوم، فدخلت الحداثة جماهير عريضة، روسية وصينية، وأعداد كبيرة من الناس يختبرون للمرة الأولى رغد العيش. وفي الأثناء، يصيب الانهيار قطاعات برمتها، في البلدان المتقدمة. ويؤذن هذا بتعاظم التفاوت في البلدان الغنية. وعليه، تبعث مسألة التفاوت على نحو غير متوقع. وقد يقال ان المسألة هي الاستبعاد والتهميش فوق ما هي التفاوت. والحق أن المسألتين متصلتان ومتلازمتان. ويلاحظ الباحث الأميركي في السياسيات، ستيفن هولمز، ان اليسار في حال يائسة لخلو وفاضه من تناول مقنع لمسألة هجرة أهل الجنوب الى بلدان الشمال ومجتمعاته. فيحاول اليسار تمييز الأوضاع والأحوال، والتدقيق فيها، والامتناع من اطلاق القول الإجمالي والقاطع. ولكن الريح تنفخ في أشرعة الشعبوية اليمينية. وفي الصراع الكبير بين الإيديدلوجيات الثلاث الفاشية والشيوعية والليبرالية قد تعود الإيديولوجية التي هزمت في أول الأمر، أي الفاشية، فتطفو على السطح وتجدد حلتها. ويُرى هذا في تسلط بوتين، على نحو ما يرى في شعبوية بيرلوسكوني. والإيطاليون قساة على الرومانيين والغجر وغلاظ القلوب. وأخشى أن تكون الحال هذه عامة في كثير من البلدان. ونحن شهود تيارات واتجاهات شاملة وعامة تترتب عليها ظاهرات انغلاق سياسية وأخلاقية تتهدد العالم بأخطار لا يستهان بها. وفي الأثناء، يتعاظم عدد طلاب اللجوء، تسوقهم الكوارث المناخية والحروب والاضطهاد، ولعل من القرائن على تردي الحال مسار كاتب مثل أرجون أبادوراي: فهو في كتابه"بعد الكولونيالية"2005 يتناول العولمة معلقاً عليها الآمال العريضة، قبل أن يعالج العنف المترتب عليها، في كتابه الثاني"جغرافية الغضب"2007، ويعزوه الى التفاوت والأخطار والمنازعات التي تلازمها. وأما الخلوص من هذا كله الى القول ان العالم يخرج من الفصل الديموقراطي، أو يطوي الحقبة الديموقراطية، فلا يخلو من الشطط والمبالغة، فمن وجه، لا شك في أن المثال الأوروبي لم يعد المثال الغالب. ولكن القول بعجز أو احباط أوروبي، فبعيد من الحقيقة. ويعكف كاتب بلغاري، إيفان كراستيف، منذ سنتين على دراسة معنى عبارات روسية شائعة مثل"الديموقراطية السيدة"أو"السلطة العمودية". ويرى ان العبارات هذه مظهر نزاع ايديولوجي مع الاتحاد الأوروبي، يفضي في نهاية المطاف الى حرب باردة جديدة، يتولى الروس والصينيون فيها اقتراح مثال سياسي ينافس الغرب. وفي الولاياتالمتحدة، يشخص روبيرت كاغان، بعد مقالته في"الإمبراطورية السمحة"، عودة الى القرن التاسع عشر والتوازن بين القوى الكبيرة، واختتام الأحلام. وهو يرى مزجَ العودة هذه بحرب باردة جديدة بين قوى رأسمالية ليبرالية وبين قوى اوتوقراطية مستبدة. وينهض هذا على فكرة تاريخية تبدو لي متهافتة. فالقرن التاسع عشر لم يشهد نزاعاً بين معسكرين ايديولوجيين، وفي 1914 كانت فرنسا وانكلترا الليبراليتان حليفتي روسيا الأوتوقراطية. والتهافت سياسي كذلك: فعلى رغم حلفهما التكتيكي على الغرب، لا تشترك الصينوروسيا في مصالح واحدة على المدى البعيد، والبلدان ينافسان الغرب، وقد يخاصمانه في بعض الأوقات، ولكنهما شريكان لا غنى عنهما في آن. وما هو، على وجه الدقة، مضمون"الديموقراطية السيدة"؟ إنه، أولاً، رغبة حادة في تخلي الغرب عن تلقين روسيا دروساً في الديموقراطية. فهم يريدون تصديق مزاعمهم الديموقراطية والإقامة على التسلط معاً. وهم يملكون النفط والقوة، ويريدون صنع ما يحلو لهم. هذا ما يريده الصينيون كذلك. وفي 1990، حسب الروس أن ابتهاج الأميركيين والأوروبيين بتركهم الشيوعية يترتب عليه دعوتهم الى المشاركة في قيادة الغرب مع الأميركيين، وفي قيامة أوروبا مع الاتحاد الأوروبي، ويترتب عليه الإقرار لهم بمكانة على حدة. وأما اعتبارهم أناساً أسوياء وعاديين، وحملهم هم والأوكرانيين والبلغار على قدم المساواة، ففكرة تبدو لهم غريبة وغير مفهومة. فهم يرون أنفسهم ديموقراطية سيدة، أي قوى كبرى تملك أسلحة نووية، على ما يقولون. وقد يعد اتساع الطبقات المتوسطة الروسية، وتقدمها، بدولة قانون وحق، على ما يرى بعضهم. ولكن ما سبيل روسيا الى معالجة أزماتها الداخلية، أزمة تناقص عدد سكانها وأزمة النفقات الصحية الثقيلة، من غير نمو؟ وعليه، فأنا لا أذهب الى ان الديموقراطية على وشك الأفول. فهي لا تزال أفقاً مرغوباً تقبل عليه الصينوروسيا، على رغم ان البلدين قد يتوجهان شطر شكل جديد من الفاشية. فأنا لا أحسب أن الرأسمالية المتسلطة نظام مستقر. والبلدان معرضان لتجاذبات داخلية، ولا تخلو التجاذبات هذه من فرص مواتية للديموقراطية، فمرحلة الديموقراطية المظفرة، باسم الحق في التدخل وپ"مسؤولية الحماية"والمشروع الأميركي الكبير، انتهت وطويت، من غير أن يعني طيها ونهايتها ختام تاريخ الديموقراطية. فالشروط تغيرت، وينبغي العمل من داخل، على ما تقول باسمة قضماني "هدم الجدران"2008. ولست أحسب أن العالم قد يجترح حلولاً تحل محل الديموقراطية والسوق، على رغم حظوة الدولة ودورها الجديد. والقادة الذين يتوسلون بالنفط، ويعولون عليه في سبيل طمأنينة شعوبهم، لا يعرفون كيف يطورون بلادهم وينمونها، ولا كيف ينتزعون دواعي غضب شعوبهم وتململها. فإما يخففون عن كاهلها وطأة تسلطهم، وإما يغذون ميولهم الفاشية. وعلى خلاف ما يذهب اليه كراتسيف، لا يزعم الروس أن الديموقراطية السيدة مثال ثابت لا يحول ولا يزول. فهي قناع الحجة القومية، وهم يريدون الحفاظ على العملية الديموقراطية في الداخل، وقيادتها وتوجيهها. وفي الأثناء هم يختبرون مساوئ الرأسمالية كلها. ومنذ القدم وأهل الصناعة يحسبون أن تعاظم التجارة والاستثمار في الخارج يؤدي حتماً الى الانتقال الديموقراطي. والحق أن الجزم في ما يؤاتي الانتقال الديموقراطي عسير. وهذا ما اختبر في اتفاقات هلسينكي: فهي لم تكن ميونيخ جديدة، أو خضوعاً للقوة الشيوعية، بل تكشفت عما سماه فيلي براندت"انفراجاً هجومياً". وأمكن حصول نفاذ ثقافي الى الاتحاد السوفياتي، وكان هذا مستحيلاً في زمن ستالين. ويقتضي اشتراط الدول بعضها على بعض علاقات اقتصادية، على ما ذكر باراك أوباما في حملته الرئاسية. فلولا الحصار الأميركي طوال 40 عاماً لما كانت كوبا شيوعية الى اليوم. والمبادلات الاقتصادية والثقافية عامل ينبغي استثماره بحذر وحكمة. والمبالغة تجرح المشاعر القومية. ويصح هذا في ايران. فما من سبيل آخر الى انشاء بيئة مؤاتية للديموقراطية؟ فلا يسع الدول الكبرى الإعلان عن أولوية الدفاع عن المصالح الوطنية، وبين وقت وآخر التلويح بخطط انسانية عظيمة. فالقوى الإقليمية تؤثر معالجة الأمور في ما بينها، على ما أفهمت الهند الدول الغربية حين طرحت مسألة بورما. وإذا لم تعتبر الشراكة الإقليمية، لم تنفع المبادرات الدولية الكبيرة. ويجدر بالغرب أن يمد يد المساعدة من غير توريط من يساعدهم. فالجنوب قد يرى الديموقراطية ذريعة امبريالية. وقد تكون مقاومة الإمبريالية ذريعة الى تثبيت الطغيان. عن بيار هاسنير مدير أبحاث سياسية واستراتيجية، "إسبري"الفرنسية، 8-9/2008