قد يرى بعض المراقبين المتحاملين في تزامن انعقاد مؤتمر الدول غير المنحازة في داربن أو دوربان، جنوب إفريقيا، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والإجتماعية والسياسية الروسية واقترابها من انهيار الدولة الروسية وإفلاسها التام، "علامة" من علامات التاريخ الساخرة أو المراوِغة. وقد لا يكون ربط المسألتين، مسألة النمو، على ما يقال كناية عن التخلف والتأخر عن تلبية حاجات السكان والمواطنين، في حال المؤتمر الثاني عشر لدول عدم الإنحياز، ومسألة متانة العملة الوطنية والقدرة على الوفاء بالتزامات الديون، في حال روسيا، قد لا يكون هذا الربط تعسفاً خالصاً ولا تحاملاً ثقيلاً. فالبلدان غير المنحازة التي "احتفلت" بمؤتمرها الثاني عشر في ضيافة آخر وجه من وجوه سياسات التحرر من "الرجل الأبيض"، نلسون مانديلا، تدين بتكتلها في تيار واحد، ولو ضعيف التماسك، إلى سياسة سوفياتية، شرقية، قديمة، ترقى ربما إلى بدايات الثورة البلشفية واللينينية. ولا يكذب هذا الزعم، ولا هذا النَّسَب، تولي شوان لاي، الصيني، ونهرو، الهندي، بلورة "الحياد الإيجابي"، في النصف الثاني من الخمسينات، شعاراً ومذهباً. إذ سرعان ما خلص بعض أعلام عدم الإنحياز - وهو قُصد به ترك الدخول في الأحلاف العسكرية، "الباردة" في أوروبا، والدامية في إفريقيا وآسيا وبعض أميركا الكاريبية والجنوبية - من الحياد السياسي والعسكري والأمني بين القوتين العظميين إلى انتهاج طريق في "البناء" الإقتصادي والإجتماعي والإداري - السياسي وصفت ب"اللارأسمالية" تارة وبالإشتراكية تارة. وغلب على "حركة" عدم الإنحياز، وتوهَّمَها بعضُ قادتها واحدة على مثال "عالم ثالث" واحد ومتجانس، الجمع المعلن بين التخلص من السيطرة الاستعمارية والأوروبية، حتى غداة الحرب الثانية، وبين استعجال بناء اقتصادي مستقل وعادل التوزيع، في الداخل. والحق أن بعض هؤلاء القادة، ومعظمهم إفريقيون ومنهم عبدالناصر المصري "العربي"، انتهوا، بعد شيء من التردد، إلى الأخذ بركني "النظام" السوفياتي، وما حسبوه نظاماً ومثالاً: الحزب الواحد والإقتصاد الإداري أو "المركزية الإقتصادية". ومن تردد منهم في تبني "الإشتراكية العلمية"، أي "الماركسية - اللينينية"، مذهباً فكرياً أو اعتقاداً وإيديولوجية، مراعاة لاعتقادات شعبية وداخلية دينية، جعل من تصفية الأفكار التقليدية، مع تصفية الطبقات القديمة والسيطرة الأجنبية، "إشتراكية وطنية" أو محلية لا تتميز من المذهب السوفياتي إلا بضعف التماسك وبمزج عناصر مختلفة المصادر وهذا من قبيل المديح والتحسين وليس من قبيل التجريح. وتكشَّف الركنان السوفياتيان - وهما يتلخصان في تسلط الحزب الواحد، أو الجماعة الواحدة، أو "الطبقة الحاكمة الجديدة" على الدولة والمجتمع واحتكار مواردهما، وحماية هذا الإحتكار من المنافسة والمنازعة - تكشَّفا عن آلة ترسيخ للسيطرة لا تجارى فاعليتها، على ما ظهر في العقد الأول من تاريخ "الحركة". وأسبغت العالمثالثية، وقوامها العداء القومي للغرب الإستعماري والشعبوية الإجتماعية، الشرعية التاريخية على سياسات داخلية تفتقد المساندة. أو هذا، أي إسباغ الشرعية، ما حسبه أصحاب الأمر كسباًوما ترجموه تأليباً جماهيرياً صاخباً. وترتبت على ترسيخ السيطرة هذه إجراءات اقتصادية هي بمنزلة القلب من انهيار الاتحاد السوفياتي ومن الأزمة الروسية المتعاظمة اليوم. فعمدت "الطبقات" المتسلطة إلى عزل اقتصاداتها عن الأسواق العالمية. وأرست هذه العزلةَ، المزعومة، على شقين: استيراد أجهزة تصنيع تنتج سلعاً محلية بديلة وتوفر على البلد استيراد سلعه الاستهلاكية" وسعر قطع للعملة الوطنية بإزاء العملات الأجنبية، المحظور تداولها الداخلي حظراً تاماً، لا حقيقة له ولا علاقة بعوامل الإنتاج والتبادل. فأدى الشق الأول إلى تعاظم الدين الخارجي، واستنزاف احتياط العملة، وإلى افتعال كتل إنتاج وعمل أخلَّت بتوازن القوى العاملة وتوزيعها ومواردها خللاً فادحاً" هذا عدا انحطاط جهاز الانتاج، أو ما بقي منه، إلى مستوى متدن يكاد لا يلبي حاجة. وأدى الشق الثاني إلى هرب الاستثمارات والمستثمرين، ونضوب الاستثمار، وإلى استشراء سوق سوداء للسلع والنقد لم تلبث أن تحولت إلى مصدر امتيازات اقتصادية واجتماعية لطبقة سياسية و"إدارية" بيروقراطية من غير إدارة طفيلية وباهظة التكلفة. وتسترت على نتائج الشقين هذين، وهي نتائج فادحة، سياسات عامة، داخلية وخارجية، غذت المنازعات الداخلية، القومية والمحلية والدينية، بأسباب تفرقة اجتماعية واقتصادية فاقم منها توزيع المراتب السياسية توزيعاً متسلطاً ومتعسفاً لا ميزان له إلا حماية أهل "النظام". فحيل بين الجماعات والأقوام والمناطق وبين مزاولة السياسة والمنافسة على السلطة، ومنع أصحاب المصالح الاقتصادية من الانتظام في هيئات تدافع عن مصالحهم وتفاوض على حلول مشكلاتهم" ودين كل رأي يخالف القول الرسمي والمفروض بالجريمة والعمالة" وألحق القضاء بالسلطة جهازاً من أجهزتها الأمنية أو الدعاوية" وتورمت أجهزة الدولة ورماً عظيماً وأناخت بثقلها المادي والبوليسي والمعنوي على المجتمع. وكان التلويح الدائم بخطر خارجي داهم ووشيك الذريعة الفضلى، المتوهمة، لحفظ وحدة الدولة، واسكات الخلافات، وتسويغ التطهير والاعتقال والقتل. ويحصي، اليوم، تقرير "حركة" عدم الانحياز، في وثيقة من 125 صفحة، حصاد هذه السياسات الخرقاء والمستمرة في غير بلد من البلدان المئة وأربع عشرة بلداً وآخرها بيلوروسيا، روسيا البيضاء، المرشحة للتوحيد مجدداً بالاتحاد الروسي، أو روسيا الخالصة التي تعدها الحركة المزعومة. فيوصي التقرير بمعالجة تعاظم الفرق بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب، وبالتصدي لتعاظم مديونية بلدان الجنوب، والحد من عداء "البيئة الاقتصادية الدولية المعادية" المتمثل في "شمولية" الاقتصاد العالمي، أي في الحال العامة التي عليها إطار العلاقات الاقتصادية. ولا ينسى التقرير "إصلاح" مجلس الأمن بزيادة عدد أعضائه الدائمين الى أحد عشر عضواً، ولا الدعوة الى نظام عقوبات دولية مقيد زمناً وتعليلاً. لكن التقرير يهمل تناول العوامل التي أدت، في غضون ربع القرن الأخير، الى تناثر قاعدة "الحركة"، وهي العالم الثالث المفترض واحداً، مجموعات بلدان متباعدة. فبعض هذه البلدان تصدر، في الأثناء، النمو الصناعي، ونافس البلدان الصناعية القديمة على انتاج سلع جديدة، وأنشأ مناطق اقتصادية واسعة ومتصلة، وخرج من التسلط السياسي والاجتماعي الى ديموقراطية مبتدئة، وجعل من الاندماج في العلاقات الاقتصادية الدولية وقبول معاييرها معياراً حاسماً وثابتاً في تدبير سياسته العامة. وبعضها الآخر تفاوت أخذه بهذه المعايير، ومزجه بينها، على تمسك بها. وبعضها الثالث ما زال مديراً ظهره لها جميعاً. وبعضها الرابع يترجح بين الحروب الأهلية وبين الحروب الإقليمية... أي ان وحدة الحركة، على افتراض وجودها في يوم من الأيام، في خبر كان. وفي هذا الأمر عبرة تنقض أركان الحركة السابقة. ولعل من المفارقات القاسية أن تعقد الدورة الثانية عشرة في إفريقيا، وفي دوامة حروب أهلية وإقليمية، إفريقية وآسيوية، قلما سبق بلوغها هذا العدد في وقت واحد، إلى انعقادها بينما يتجدد انفجار الأزمة الروسية لأسباب بعضها يشبه أسباب غرق بعض دول الحركة في أزمتها المزمنة. وإلى هذا التشخيص، السياسي والاقتصادي المجتمِع، يذهب المنتدى المتوسطي الثاني، "منتدى مراكش"، المنعقد في الأسبوع الأول من أيلول سبتمبر كذلك. فوصف المنتدى مشكلة التنمية الأولى في عدد من البلدان المتوسطية بالفساد، أي بشبك المصالح السياسية والإدارية بالمصالح الاقتصادية، الخاصة والعامة. فالفساد، على هذا التعريف الذي يذكر بالمثال السوفياتي والعالمثالثي الدولة - الحزب، يثقل وزن الإدارة والأجهزة من غير رادع ولا معيار اقتصادي، و"يضعف القضاء"، يُبْهظ تكلفة التعامل التجاري بالخوَّات والامتيازات والاقتطاعات، ويضعف من شأن الكفاية الإنتاجية والشخصية لصالح الحماية والرعاية، ويبدد الأموال العامة من غير رقيب ولا حسيب، ويتستر على المشكلات، ويحول دون التعبير عنها والمفاوضة على معالجتها، ويمنع نشأة مجتمع مدني يتمتع بقواعد مستقلة عن تدخل السلطة السياسي والأمني. ويرد بعض خبراء الاقتصاد الأميركيين كليفورد غادي، من "بروكينغز" الأزمة الروسية الحالية الى التمويه، منذ عام 1994، على انتشار المقايضة في المبادلات الداخلية، وعلى جباية الضرائب، والى التقليل من نسبة التضخم ومن نسبة عجز المالية العامة. فاستعملت القروض الخارجية وحسابات الائتمان في تمويل المصروفات الجارية، عوض استعمالها في تمويل الإنتاج وإنشاء المنشآت المنتجة الراكدة، عدداً، منذ عام 1994. وفي الأثناء سطا عدد من كبار الإداريين والحزبيين السابقين على مرافق الإنتاج المخصخصة واستغلوا ريعها في سوق المضاربة، وأخرجوا نحو 80 بليون دولار ودائع في المصارف الأجنبية. وهذا ضرب فاحش من الفساد الذي لا تتستر عليه السياسة ولا "القيم" و"الأفكار". وهو يتهدد روسيا المتحدرة من الشيوعية بالتقويض الأهلي والداخلي على نحو ما أدى بدول عدم الانحياز الى حروبها الأهلية والقومية والإقليمية. فيلتقي المثال مقلِّده في مأساة واحدة قد يكون مصدرها واحد، هو ازدراء البشر وحريتهم.