يكاد يكون ضلوع حكم الرئيس الأميركي الثالث والأربعين في تقييد القوة والنفوذ الأميركيين في الأعوام العشرة المنصرمة، ضعيفاً. وذلك على رغم الأحادية الأميركية، والديبلوماسية الاستفزازية التي انتهجتها الإدارة في إعداد حرب العراق، وغداتها، وعلى رغم التنصل من موجبات القانون الدولي. فالعوامل التي حملت السياسات الأميركية على النهج الذي تنتهجه منذ أوائل عقد التسعينات من القرن الماضي ليست من صنع الادارة، ولا من صنع الولاياتالمتحدة. فلا ظهور الصين قوة كبرى، ولا انقلاب محور الاقتصاد العالمي الى آسيا، ولا تعاظم دور سياسات نفطية حمائية، وانتشار الاسلام السياسي على وجوهه المتفرقة والمختلفة، كانت الولاياتالمتحدة السبب فيها. وليس في مستطاعها، ولا في مستطاع حلفائها السيطرة عليها. وتنهض المرحلة المنصرمة منذ انهيار جدار برلين الى انتصار أميركا وحلفائها على الجيوش العراقية، قبل اندلاع تمرد تعتريه الانتصار السريع هذا أو التسعينات المتمادية والمتطاولة، منعطفاً تاريخياً قائماً بنفسه. وهي كذلك حدثت هجمات 11 أيلول سبتمبر وحرب العراق أم لم تحدثا. فهجمات الوقائع والعوامل أقوى من الحوادث السياسية التي تنسب اليها السياسات الأميركية عموماً، ومبادرات الرئيس بوش خصوصاً. ففي ختام الحرب الباردة راج الزعم أن عالماً يسيطر عليه قطب واحد خلف عالماً كان يسيطر عليه قطبان. ولا يصدق هذا الزعم إلا على الوجه العسكري، وإلا جزئياً. فالقوة الأميركية ساحقة في الحرب على قوات عسكرية نظامية تتخلف مرتبتها عن المرتبة الأولى أو الثانية، شأن قوات العراق أو صربيا. ولكن الحروب غير المتكافئة ولا المتناظرة، شأن حربي افغانستانوالعراق، تثقل على جوليات المدجج بالسلاح، وتقيده بحرب أنصار لا طاقة له بها، فلا الطائرات الخفية ولا حاملات الطائرات نافعة في حرب شوارع ومدن، ولا جدوى من الصواريخ المضادة للصواريخ للوقاية من العبوات المحلية الصنع. ولا مراء في أن عالم القطبية الثنائية لم يخلفه عالم قطب واحد، بل خلفه عالم كثير الأقطاب. ويعود هذا الى أعوام السبعينات 1970، عندما شفيت أوروبا واليابان من دمار الحرب العالمية الثانية، وابتدأت الصين مسيرها. وآذن الرئيس نيكسون، في خطبة ذائعة الصيت تعود الى 1971، بعالم يسوده خمسة أقطاب هم الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي وأوروبا واليابانوالصين. فقبل عشرة أعوام على نهاية الحرب الباردة كان العالم كثير الأقطاب والدول الكبرى. وترك القوى الكبرى أميركا تخوض الحروب على دول ثانوية، من البلقان الى آسيا الوسطى، لم يؤد الى سيطرة قوة عظمى واحدة. وعلى المثال نفسه، لم تنصب سيطرة الاسطول البريطاني طوال القرن التاسع عشر، على البحار بريطانيا قوة عظمى، ولم تفردها على حدة من قوى الجوق الأوروبي ودوله. ويُزعم، من وجه ثالث، أن ثورة حقوق الانسان كرست انتصار الديموقراطية الرأسمالية والليبرالية في حروب القرن العشرين الايديولوجية. والقرينة على صدق هذا الزعم، بحسب أصحابه، قيام أمم شرق أوروبا على الشيوعية تحت لواء حقوق الانسان. والحق أن الباعث على انتفاض بلدان شرق أوروبا كان، في المرتبة الأولى، القومية وعصبيتها. والبرهان هو انفجار يوغوسلافيا الدامي وانفصال تشيكوسلوفاكيا السلمي، الى تصدع الاتحاد السوفياتي نفسه أمماً أقوامية وعصبيات. ومعظم الشعوب التي تتقلب على لظى العنف السياسي، من بلاد الباسك الاسبانية الى جزر الفيليبين، لا تقاتل في سبيل حقوق الأفراد وحالها وحال المقاتلين في سبيل خلافه جهادية، سواء سواء. فشاغل البشر، أو معظمهم ما خلا النخب في بلدان شمال الاطلسي، هو وحدة نظام الحكم القومي وليس شكله أو صورته الديموقراطية. ولم تحل ديموقراطية الحكومات المنتخبة في فلسطينولبنانوالعراق دون اشتعال الكراهية لاسرائيل. ويذهب زعم رابع أن الرأسمالية انتصرت على الاشتراكية، وأن الرأسمالية المنتصرة هي الرأسمالية الليبرالية على صورتها في اواخر القرن العشرين. ويطعن في صدق الزعم هذا أن اليابانيين لم يعتنقوا يوماً السوق الحرة الرأسمالية. وابتكرت الصين وروسيا، في الأعوام الأخيرة، مزيجهما الخاص من راسمالية الدولة والسوق. والأرجح أن يلد النمو الصيني والهندي عصراً حمائياً جديداً، على الضد من توقع اقتصاد سوق على صعيد عالمي شامل. فقوة صناعية مثل الصين لا تسلم مقاليد تموينها بالطاقة والمواد الخام الى قوى السوق وتوازناتها. فتعقد اتفاقات ثنائية مع الدول المصدرة. وبينما تكثر المعاهدات الاقتصادية الاقليمية تتعثر المفاوضات العالمية، وتترجح منظمة التجارة الجامعة في مكانها. وتؤدي المنافسة بين الأمم الصناعية الناشئة بآسيا وبين الديموقراطيات القديمة الى تعظيم نفوذ الدول القومية المتسلطة صاحبة الموارد الحيوية مثل ايران وروسيا وفينزويلا. وهي لا تقصر دور الصين على الشراء والاستهلاك، وترى اليها كفءاً لأميركا وعدلاً سياسياً واقتصادياً لها. وعلى هذا، فافكار التسعينات المتمادية والمتطاولة باطلة كلها، وعلى الرئيس الأميركي الآتي، شأن نيكسون في 1969، إنهاء الخسائر الأميركية في حرب فاشلة من غير تقويض صدقية الجيش، ما وسعه الأمر. ويرجح ان تتضافر الحملات السياسية في الداخل، مع الحاجة الى إثبات دوام القوة الاميركية في الخارج، على حمل الرئيس الآتي على الا ينسحب من العراق الا بعد إظهار هذه القوة، والرهان عليها، إما في العراق أو خارجه. وقد لا تختلف حال الشرق الأوسط، خارج العراق، عن حاله اليوم. فلا ينفك تتنازعه الانقلابات والانتفاضات والحروب الثقيلة الوطأة. وقد لا يقدم الرئيس بوش، في اثناء عامي ولايته الثانية الأخيرين، على حرب ثالثة، إيرانية، تضاف الى جبهتي أفغانستانوالعراق. فيقارع السنة العراقيين وطالبان أفغانستان وشيعة إيران، معاً. ويرجح، بدل الحرب على ايران، ان تنفجر حرب بالواسطة في دولة منقوضة مثل العراق أو لبنان. واذا لم تهاجم الولاياتالمتحدةايران، ولم يتصدع النظام الثيوقراطي الإيراني، فقد ينبغي ان يعالج الرئيس الاميركي الآتي مسألة ايران نووية. وعلى رغم الخطب الرنانة في"جنون"القادة الإيرانيين، فلا بأس بالتذكر بأن دولاً نووية غير مأمونة الجانب شأن صين ماو تسي تونغ وباكستان برويز مشرف، ردعت عن استعمال السلاح النووي. وقد لا يكون لإيران شأن آخر. ويجر كسر إيران احتكار اسرائيل السلاح الاستراتيجي في الشرق الأوسط انتشاراً نووياً يعم المنطقة. فلم يتكتم جمال حسني مبارك على حاجة مصر الى برنامج طاقة نووية خاص. ولن تلجم بلدان اخرى، مثل تركيا والدولة العراقية أو الدول المقبلة وغيرهما، نازعها الى اقتفاء أثر مصر وإيران وإسرائيل. وعلى المثال نفسه، لن تتأخر اليابان وكوريا الجنوبية عن الحذو على السابقة الكورية الشمالية الذرية. فاذا ظهرت قوى نووية جديدة جنوب أوروبا وشرقها، فقد يدعو هذا ألمانيا الى إنشاء قوة ردع المانية. والذين يتوقعون تقارباً بين ضفتي الأطلسي بعد رحيل بوش في 2009، لن تعتم خيبتهم. فالنخب السياسية الادارية والديبلوماسية الاميركية التي رعت هذا التقارب في اثناء نصف القرن المنصرم، كان منيتها الشمال الشرقي الاميركي. وهذه النخب أفلت وبادت. وحل محلها عسكريون محترفون، وجماعات ضغط مدنية، اقتصادية وإثنية وايديولوجية، منبتها الجنوب الاميركي والغرب. ويأمل فريق المراقبين في ان يحمل الاخفاق الاميركي في العراقالولاياتالمتحدة على الانخراط في مسعى لحل المسألة الفلسطينية حلاً دائماً وثابتاً. ونقيض هذا هو المرجح. فما يحدو الاميركيين على السعي في استمالة العرب هو احتلالهم بلداً غربياً العراق. فاذا أفلحوا في الخروج من العراقوأفغانستان، وتجنبوا الانزلاق الى بلد اسلامي آخر، فلن يبقى شيء من نازع بعض السياسيين الحيي الى موازنة تأييدهم اسرائيل باستمالة رأي عام عربي او اسلامي. والخروج من العراق على نحو مهين يترتب عليه تعاظم قوة اليمين المناهض العرب والمسلمين، وتردي علاقة الولاياتالمتحدة بأوروبا. وقد يفاجأ الأوروبيون، في النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين، بوصفهم على لسان الجمهوريين والديموقراطيين معاً، بپ"العوروبيين"الخانعين. ويستفاد من التاريخ الاميركي ان معارضة حرب خاسرة او غير شعبية قد تقضي على حظوظ حزب المعارضة هذه ببلوغ الحكم. ولا يؤذن اجتماع المعارضين، اليوم، بانكلترا الجديدة في الشمال الشرقي، بالخير. ولا شك في ظهور"عرض عراقي"، على مثال"العرض الفيتنامي"أو رفض خوض حرب كبيرة غداة الجلاء عن العراق. ولكن النقيض النيو- ليبرالي للمحافظين الجديد قد لا ينتصر، فالجناحان يسعيان في بلوغ غاية واحدة هي اقتصاد سوق شامل في عالم تتصدره أميركا. عن مايكل ليند باحث ومؤلف "الطريق الاميركية الى الاستراتيجية : السياسة الخارجية وطريقة الحياة الاميركية"، أوكسفورد، 2006، "بروسبكت ماغازين" الاميركية، 1/2007