لعلّ قناة "أرتيه" الثقافية الفرنسية - الألمانية هي من القنوات التلفزيونية القليلة التي لا تزال تفرد، بوضوح، أوقاتاً لفنون العرض المسرحي. وأحياناً، تنتج تحقيقات وتقارير وأعمالاً تسجيلية ووثائقية، تشي بنفَس مسرحي في إعدادها. ومسرحة المواقف والأحداث ليست غريبة عن التلفزيون، خصوصاً أن بداياته كانت مع المسرح، أو مع التصوير ضمن ديكورات ثابتة تعتليها شخصيات روائية متخيّلة لوريل وهاردي وبات ماسترسون، وأبو سليم الطبل...، أو شخصيات واقعية في مقابلة أو"توك شو"...، أمام عدسة ثابتة، أشبه بعين متفرّج غير أنها تتسع لملايين العيون. والديكور ذاته بمثابة"العلبة الإيطالية"، أي منصة العرض التقليدية، التي يقابلها جمهور المتفرّجين. وكانت المسرحيات، المحكية منها والصامتة والمغنّاة، تشكّل مادة للتصوير والعرض على الشاشة الصغيرة، وتقدّم بكثرة، معزّزةً مفهوم"الريبرتوار"وحفظ الأعمال الفنية. ومن العناصر التي تشكّل روعة العمل المسرحي، إذا كان جديراً بالمتابعة، المجهود الذي يبذله المتفرّج من بُعد، في محاولته"استيضاح"قسمات الوجوه وتبدلاتها، والحركات الجسمانية العابرة التي تمرّ خلسة أحياناً. وهذه من الأمور التي تنطبع في ذهن المتفرّجين وذاكرتهم، لأنها تظهّر براعة الممثل وملكته... - أو إخفاقه - وتثير الإعجاب. ثم جاءت الكاميرا وحلّت محل أحد المتفرّجين، في وسط القاعة، لتصوّر المسرحية، كما يراها ذلك"المتفرّج ذو العين الواحدة". بيد أن لهذه العين الوحيدة قدرة على رصد تلك القسمات المتبدّلة والحركات الخفية، وتقريبها، والتقاطها. وهذه اللقطات"يدسّها"المولّف فنّي المونتاج بين اللقطات العامة، لكي يبرز تلك التفاصيل المسرحية الخفية. وهكذا، أصبح في وسع المشاهد التلفزيوني أن يستمتع، من خارج المسرح، بما يصعب على المتفرّج التقاطه، في الداخل. فجاءته التفاصيل الدقيقة على"طبق". ولكن، لا شيء جديداً يأتي من دون خسارة، فهذه الوسيلة اليسيرة التي طرأت على"فن المشاهدة"، تقطّع المناخ العام للعمل المسرحي، فيفقد المشاهد تسلسل المواقف وتواصلها... ودفء العرض. ومع تطوّر تقنيات التصوير ومفهوم الإخراج السينمائي في المسرح، صار في وسع المخرجين أن يصنعوا من مسرحية تُعرض على خشبة، عملاً مصوّراً قائماً بذاته، من خلال"دس"لقطات من الكواليس واستعدادات الممثلين وإرشادات المخرج، وفنيي الصوت والإضاءة، وردود فعل المتفرّجين... وكل ما يرونه صالحاً لعملهم. اقتحمت الكاميرا المسرح وجعلت تفاصيله مواد سينمائية، بل يسّرت تصوير عرض مسرحي قائم، في غير الأماكن التي تجري فيها أحداثه، احتراماً لزوايا الكاميرا، وإثارةً للمشاهدين. لم يعد للمسرح المسرح مكان في الشاشة، فغاب عنها، أو يكاد. ولعلّ أفوله في الواقع، يعود إلى أن الشاشة ووسائلها لم تتوخ الأمانة في نقله والمساهمة في انتشاره كما هو، بعدما عبثت في جوهر وجوده، وهو الإمتاع والمؤانسة.