حملت حرب القوقاز الجديدة في خمسة أيام تطورات مفاجئة، لجهة اتساع نطاقها وسرعة حدوثها، وغيرت نتائج مجرياتها معادلات كثيرة في منطقة القوقاز، وربما على المستوى الإقليمي كله في الفضاء السوفياتي السابق ومنطقة شرق أوروبا، كما يرى بعض المحللين الروس. وقال مصدر روسي رفيع المستوى ل"الحياة"أمس، إن موسكو"حققت كل أهدافها من التدخل العسكري رداً على العدوان الجورجي على أوسيتيا الجنوبية"، والعبارة واضحة لا تقبل التأويل، وتعني بكلمات أخرى أن الروس لن يتراجعوا عن"المكاسب"، لأنهم ببساطة"فقدوا الثقة"بالرئيس ميخائيل ساكاشفيلي الذي"قاد مغامرة عسكرية بالنيابة عن أطراف كبرى"، لكنه فوجئ كما فوجئت الأطراف الدولية التي تؤيده- والمقصود هنا الولاياتالمتحدة تحديداً- بمستوى الجاهزية الروسية للتدخل و"الدفاع عن مصالح روسيا في الفضاء السوفياتي السابق"، بحسب عبارة المصدر الروسي. وكما يشير محللون روس فإن ساكاشفيلي راهن على قدرة جيشه على السيطرة على أوسيتيا الجنوبية بهجوم خاطف، معتقداً أن تلويح موسكو بالتدخل العسكري مجرد"محاولة تخويف". لكن الدخول الروسي القوي والنتائج التي وصلت إليها الأمور في خمسة أيام، أظهرت أن روسيا اجتازت اختباراً هو الأصعب لقدرة قوتها العسكرية من جانب، وإرادتها السياسية فرض رؤيتها عبر التمكن من اتخاذ قرارات الحرب الحاسمة من الجانب الآخر. وأظهرت حرب القوقاز الجديدة أن روسيا انتقلت من مرحلة استعادة قدراتها وتعزيز سمعتها، إلى مرحلة التحرك على الأرض لتكريس أمر واقع جديد، تدخل فيه موسكو طرفاً رئيسياً في المعادلات الإقليمية والدولية، عبر التأكيد بأنها دولة كبرى تملك كل الإمكانات السياسية والعسكرية للتحرك على أكثر من جبهة من أجل حماية مصالحها الوطنية والإستراتيجية. وإذا كان هذا الاستخلاص الأول من الحرب الدامية في القوقاز، فإن النتيجة الحتمية له، بحسب مصادر عسكرية وسياسية روسية، أنه"لا تراجع حتى تكريس النتائج الميدانية سياسياً". وهذا يعني أن الجهود الدولية الحالية، وبينها وساطة الرئيس نيكولا ساركوزي، لن تنجح ما لم تتضمن الخطة المقترحة للتهدئة الشروط الروسية، وبينها إرغام جورجيا على توقيع اتفاقية عدم استخدام القوة مجدداً، والتي ستشكل - بحسب محللين روس - الإطاحة"سياسياً"على الأقل بنظام الرئيس ساكاشفيلي الذي فشل في حربه وخسر كل رهاناته. وثمة عنصر آخر يشير إليه الخبراء يمكن شمله ضمن استخلاصات المعارك في القوقاز، فالتغيير العسكري والميداني كرس استقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جورجيا. ويكفي أن رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين الذي أظهرت الأحداث الأخيرة أنه صاحب القرار وحاكم الكرملين الحقيقي، أمر أمس وزير داخليته بفرض النظام في أوسيتيا الجنوبية، ما يشكل خطوة متقدمة لضم الإقليم المتمرد ولو ضمنيا إلى روسيا. أما الاستخلاص الثالث الذي لا يقل أهمية فهو انكشاف جمهوريات الاتحاد السابق بحجمها وقوتها الحقيقيين، وعلى رغم تسابق جورجيا وأوكرانيا إلى الالتحاق بحلف الأطلسي بدعم أميركي مباشر، وعلى رغم الخطاب العدواني العنيف أحياناً الذي ميز لغة السياسيين في البلدين حيال موسكو خلال سنوات طويلة، والحديث عن"أحلام روسيا التوسعية والقدرة على الاستغناء عن موسكو والالتحاق بالغرب"، فإن التطورات الدامية أخيراً دلت إلى عدم حماسة الغرب للدفاع عن هذه البلدان والتضحية بالعلاقات مع موسكو وباستثناء الولاياتالمتحدة وبعض بلدان أوروبا الشرقية جاءت مواقف البلدان الأوروبية الأخرى محايدة غالباً وداعية للتوصل إلى تسوية وتهدئة تحفظ ماء الوجه للجميع. ويعني ذلك أن مشروع توسيع الأطلسي شرقاً بضم جمهوريات سوفياتية سابقة سيؤجل لفترة طويلة فلا واشنطن قادرة على إقناع حلفائها بضرورة ضم هذه الجمهوريات حالياً. كما أن قطاع المستثمرين ورجال المال والأعمال الغربيين ستتراجع رغبتهم في المغامرة بالدخول إلى أسواق ليست مستقرة تماماً، بل هي خاضعة لأهواء السياسيين وتحالفاتهم الآنية. لكن مع كل ذلك ثمة مخاوف لا يخفيها محللون روس، وعنوانها: حتى لو توقفت الآن العمليات العسكرية، فماذا بعد الزلزال؟ قال أحد الخبراء المطلعين ل"الحياة"إن موسكو أظهرت فعلاً جاهزية للدفاع عن مصالحها، لكن في المقابل فإن الأحداث، أظهرت حجم التغلغل الأميركي في المنطقة. فإعلان جورجيا أمس الانسحاب من رابطة الدول المستقلة والموقف الأوكراني"المشبوه"من وجهة النظر الروسية، ناهيك عن التطورات على الأرض منذ البداية، كلها دلت إلى أصابع واشنطن الطويلة جداً في جورجيا وأوكرانيا، ما يعني بحسب الخبير أنه"سيكون على روسيا أن تواجه استحقاقات ما بعد الحرب وستكون في موقف ليس سهلاً بالمرة". وتوقع الخبير أن تشهد المرحلة المقبلة"زيادة كبرى في الضغوط على روسيا لإجبارها على دفع ثمن تحركها وأيضا زيادة في الصراع على النفوذ في الفضاء السوفياتي السابق". وللتوضيح، يكفي أن النخب السياسية الروسية مقتنعة بأن نظام ساكاشفيلي كان سينهار خلال أيام بعد اندلاع الحرب لولا الدعم الأميركي. وطبيعي أن ملف انضمام البلدين جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الأطلسي بات مؤجلاً حالياً، كما يرى الخبراء الروس لكن المرحلة المقبلة ربما تحمل تطورات مهمة جداً داخلياً وعلى المستوى الإقليمي. باختصار، حققت روسيا في حرب القوقاز انتصاراً مهماً، وأثبتت أنها صاحب الكلمة الأول في المنطقة، لكن هذه بحسب بعضهم في موسكو، هي النتيجة القصيرة الأمد للحرب. وثمة مخاوف من أن روسيا أرغمت على دخول الحرب وهي لا تملك إستراتيجية شاملة للتعامل مع الملفات الصعبة إقليمياً، مما يعني أنها ستقف أمام سؤال"ماذا بعد؟". ومع غياب الرؤية الإستراتيجية وعنصر الضغط الأميركي المتواصل، تبقى هذه المنطقة من العالم مفتوحة على كل الاحتمالات.