حيفا بالنسبة إلى محمود درويش جزء أساس من تكوين شخصيته الأدبية. وصلها في منتصف الستينات، وبدأ نشاطه الأدبي في جريدة"الاتحاد"التي تصدر منذ العام 1944، والسياسي في الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وفيها بدأ يصدر دواوينه الشعرية، كما بدأت تجربته في المعتقلات والسجون، بعدما ظهر آنذاك صوتاً عربياً فلسطينياً صارخاً حاداً ضد الحكم العسكري الذي كان مفروضاً على الجماهير الفلسطينية في المثلث والجليل والكرمل. في حيفا، ارتفع صوته بقصيدة"سجل، أنا عربي، ورقم بطاقتي خمسون ألفاً"، في مرحلة كانت السلطات الإسرائيلية تعمل بأجهزتها القمعية كافة لمحو الهوية العربية الفلسطينية في أوساط من تبقى في وطنه من الشعب الفلسطيني. التقيته للمرة الأولى في صحيفة الاتحاد في أواخر الستينات، قبل أن يبدأ تحرير مجلة "الجديد"التي صدرت في العام 1951. أخذت"الجديد"مع درويش شكلاً آخر فنياً وعلى مستوى المضمون، لأنه كان محرراً شامل الاطلاع. فتح المجلة على الأدب العربي والأدب العالمي التقدمي. فتعرفنا من خلالها الى الكتاب الفلسطينيين في المنافي مثل غسان كنفاني وأبو سالمة، والكتاب العرب الذين برزوا في الستينات، على رغم الحصار المفروض علينا. تحوّلت الصفحات الأدبية التي أشرف على تحريرها إلى دفيئة ثورية، انعكست على الناصرة ويافا وحيفا. وفي مرحلة وجوده، نشطت الحركة الأدبية الفلسطينية ليس فقط في الشعر بل في القصة والمسرح والأغنية. وأصبحت حيفا مركزاً ثقافياً عربياً فلسطينياً قدم ثقافة ذات هوية مقاومة متميزة. وحتى في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، كان له تأثير كبير، على رغم أنه لم يكن يشغل موقعاً في سلّم القيادة. كان من الأصوات المؤثرة جماهيرياً في صفوف الحزب، وكان يلقي قصائده في مهرجاناته. واستقطب بريقه كثيرين من المثقفين العرب والفلسطينيين، بسبب المناخ الذي أسسه حضوره الثوري والفني. كان متواضعاً وصاحب نكتة وخفيف الظل. وكانت تربطنا علاقة شخصية تجددت بعد عودته إلى رام الله. غيابه خسارة مفاجئة. وعلى رغم أنني أعرف وضعه الصحي ومخاوفه من الجراحة، فإنني لم أكن أتصور أن يتوقف قلبه بهذه السرعة.