يخيل لقارئ البيان الوزاري الذي أعلنته الحكومة اللبنانية، أن ثمة "فلسفة" ما تحكم صياغته. وإذا ما ارتضينا استخدام الصفة هذه، في معناها الخفيف، الإعلامي والدعوي، لم يعد غريباً أن يستغرق إعداد البيان 21 يوماً منذ تاريخ تشكيل الحكومة الوحدوية الوطنية، وأن يقتضي عقد 11 اجتماعاً للجنة الوزارية المكلفة صياغته، وهي اجتماعات شهدت خلافات ونقاشات طويلة لم تخل من الحدة، خصوصاً أن الأعضاء الثمانية للجنة يمثلون القوى والفئات الكبرى والمتصارعة بطبيعة الحال. فالفلسفة، من حيث المبدأ وفي بعض أوجه تعريفها وعملها، إفناء الوقت للتفرغ الى إجلاء القضايا الكبرى للوجود والظواهر البشرية. هناك لبنانيون كثيرون تنفسوا الصعداء إثر إعلان البيان. وللمراقب المتفائل أن يردّ ارتياحهم، وإن موقتاً وحتى إشعار آخر، الى جهد فلسفي مضنٍ أجلى المسائل الخلافية واقترح حلولاً هادئة ومتبصّرة لمعالجتها. ولا يمنع هذا من تساؤل عما عساها تكون هذه الفلسفة. فلنسارع الى القول إنها"فلسفة"هدنة تقرّ بضرورة صياغة تعبير عن تسوية ترضي الجميع. ثمة بالطبع، على هوامش الكتل الكبيرة للموالاة والمعارضة، من يرى في هذه التسوية مساومة على مبادئ ومنطلقات يصعب الجميع بينها. وهذه الرغبة في الجمع بين مقاربات مختلفة، هي التي حملت على الأرجح على إطلاق صفة"الإرادة الوطنية الجامعة"على الحكومة المولودة بعد مخاض عسير وفي ظلال البنادق. نأمل أن تكن عبارة"الإرادة الوطنية الجامعة"التي تسمت بها الحكومة اللبنانية ذات مضمون فلسفي وسياسي في معنى القدرة على، والرغبة كذلك في اجتراح حلول قابلة للعيش، وإن كان التشاؤم التاريخي وتداخل المصير الوطني والمصائر الإقليمية والدولية يحملان على الشك في استواء هذه الإرادة الوطنية سياسياً وفلسفياً. أي أن تكون العبارة شيئاً يتعدى الإنشاء اللغوي الهادف الى التفاؤل لحجب قلق مقيم. والحال أن النصف الأول من البيان الطويل هو الذي كان مدار النقاشات الماراثونية التي استمرت ثلاثة أسابيع. أما النصف الثاني الدائر على السياسة الداخلية في الاقتصاد والتنمية والإصلاح الإداري والصحة والبيئة، فلم يكن موضع خلافات كبيرة. وهذا ما يفسر ربما قلّة استثارة هذا الجانب للحماسة والمناقشة الصاخبتين، مما يشي بأن الانقسام حول"الداخلي"لا يبلغ مدى الانقسام حول الجانب الأول،"الخارجي"إذا شئتم، من البيان. ذلك أن النصف الأول يدور على السيادة وشخصية الدولة والموقع الإقليمي وتوصيف عدد من الملفات المتصلة بالتاريخ السياسي الحديث للبنان في بعده الإقليمي المتعلق بالصراع العربي?الفلسطيني?الإسرائيلي والعلاقات مع سورية. وقد لا يكون مستغرباً أن تثير هذه المسائل أكثر من غيرها استقطابات حادة لا تخلو من استنفار المخاوف والأهواء. ذلك أن ما يتفق عليه اللبنانيون عموماً هو توصيف شروط إنتاجهم التاريخية للدولة والسيادة والموقع الإقليمي بأنها شروط تأسيس أو إعادة تأسيس للكيان الوطني في أعقاب خروج القوات السورية بعد وصاية ثقيلة، وإن متقطعة، استمرت ثلاثين سنة. وقد يكون بلدنا الصغير محكوماً بالتأسيس وإعادة التأسيس لدى كل منعطف يوصف بأنه تاريخي. ذلك أنه يصعب الفصل بين الخطاب السيادي والقوة الاجتماعية والطائفية المشددة على هذا الخطاب تبعاً لموقعها من الدولة ومن وظيفتها ومفاعيلها الإقليمية. فالبيان يتمسك بالتضامن العربي، كما تجدد الحكومة اللبنانية التزامها بالمبادرة العربية للسلام، وتؤكد تمسك لبنان بحقوقه الوطنية وبالحقوق العربية المشروعة في وجه إسرائيل وتعدياتها، وتشدد على التضامن العربي"بعيداً من سياسة المحاور حرصاً على مصلحة لبنان العليا وعلى مصلحة العرب جميعاً. ولا يرضى اللبنانيون وصاية أحد عليهم". الى ذلك تتطلع الحكومة الى"إرساء أفضل العلاقات مع الشقيقة سورية على مداميك الاحترام المتبادل لسيادة البلدين واستقلالهما". ويدخل في هذا الإطار أيضاً علاقات ديبلوماسية على مستوى السفارات وترسيم الحدود، ومتابعة قضية المفقودين والمعتقلين في سورية، لإنهائها بأسرع وقت ممكن. وتؤكد الحكومة، التزاماً منها بالقانون الدولي ومواثيق الأممالمتحدة،"مطالبتها بحق الفلسطينيين في العودة الى ديارهم وموقفها الرافض لتوطين الفلسطينيين في لبنان". بات معلوماً لدى القاصي والداني أن إدراج اسم المقاومة اعترافاً بشرعيتها الوطنية في الدفاع والتحرير هو ما دار الخلاف السياسي الدلالي حوله قبل التوصل الى صيغة تسووية. وتقوم هذه الصيغة على انطلاق الحكومة اللبنانية من"مسؤولية الدولة في المحافظة على سيادة واستقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور"، للتأكيد على"حق لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته في تحرير أو استرجاع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر المحتلة والدفاع عن لبنان في مواجهة أي اعتداء والتمسك بحقه في مياهه، وذلك بكافة الوسائل المشروعة والمتاحة". كما تؤكد الحكومة ذاتها التزامها بقرار مجلس الأمن الرقم 1701، والعمل على وضع استراتيجية وطنية شاملة لحماية لبنان والدفاع عنه يُتفق عليها في الحوار الذي سيدعو إليه رئيس الجمهورية بمشاركة الجامعة العربية بعد نيل الحكومة الثقة. لنقل إن"فلسفة"البيان المثيرة لجدل قد لا ينتهي تقوم على المزاوجة بين خطابين: الأول فلسفي?حقوقي يدور على مبدأ السيادة باعتبارها حقاً طبيعياً للسلطة الشرعية. ونعلم أن هذا الخطاب الذي تشكل في أوروبا أواخر العصور الوسطى كان يتعلق تخصيصاً بالملك وحقه في السيادة على مملكته ورعاياه. وقد استخدم خصوم الحكم الملكي المطلق المفهوم ذاته لتقييد سلطاته عبر نقل السيادة الى الشعب من خلال ممثليه المنتخبين بحرية. الخطاب الثاني نشأ لاحقاً، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهو تاريخي?سياسي يعتبر الانقسام والصراع بين الأعراق ومن ثم الطبقات الاجتماعية المبدأ الناظم لعلاقات السلطة التي تتعهدها وتديرها الدولة. وهذا الخطاب يقوم على إنتاج رواية تاريخية?نقيض لرواية أصحاب السلطة مما يستدعي من هؤلاء تعديل روايتهم، بل حتى تقديم رواية مضادة. هكذا يكون ميزان القوى ناظم السلطة الفعلي. والحال أن الطوائف اللبنانية تنقل تمثيلاتها للسلطة والسيادة بين هذين الخطابين دفعة واحدة مع الاتكال على شطارة الترميق الحرفي اللبناني في التوليف بينها بحسب الظروف.