يشهد لبنان منذ شهرين أزمة سياسية حادة قد تكون الأعمق في تاريخه الحديث. اعتاد الوطن الصغير على صنوف النزاعات الأهلية، عصفت به غير مرة، ودفع أثماناً باهِظة من جرّائها، بشرياً واقتصادياً وأخلاقياً وعمرانياً. إلى النتائج المدرجة في سجل الفرص الضائعة، أضافت الهجرة القسرية على موجات متتالية عبئاً أثقل على نسيج المجتمع وأفقدته تباعاً أفواجاً من خيرة الكفاءات الواعدة التي آثرت الرحيل طلباً للرزق والأمان والكرامة. استولدت هذه العوامل مجتمعة خللاً ديموقراطياً غير معهود، ونزوحاً مناطقياً زخَّمَ انتقال قوافل ريفية بوتائر عالية الى المدينة وتخومها، وأفرز واقعاً سكانياً عصياً على الاندماج في بوتقة متجانسة جامعة، بحيث أضحت الجغرافيا محدداً للهوية السياسية الغالبة ، تستنفر العصبيات وترفع منسوب التناقضات والمآخذ المتبادلة. درجت الحياة السياسية في لبنان على الحماوة والصخب، استوعب مفاعليها النظام البرلماني الديموقراطي، وتمكن، في أحلك المراحل، من تجاوز مطباتها، عازياً المساوئ إلى تداخلها بالعنصر الخارجي، وملقياً مسؤولية تأجيج الخصام على الآخرين الغرباء. بالفعل، وجدت هذه الرواية المخففة من الأسباب العضوية، بعضاً من سند ومسوِّغ، على امتداد الاحتقانات السابقة، إذ أنّ جوهر المسألة الصراعية اتّصل بخلفية من قماشة اقليمية، تعاقب أصحابها على اقتحام الحقل الداخلي، من باكورة اندفاعة ناصرية 1958 الى هيمنة سورية شاملة لغاية 2005، مروراً بتموضع منطقة التحرير الفلسطينية بفصائلها وأجهزتها كافة قرابة جيل كامل. غير أن الجاري حالياً، رغم عدم بلوغه حد السلاح على غرار الحقبات المنطوية، يحفل ببذور من صنع المجتمع، المشبعة بالتماهي مع نماذج على مسافة من الحاضنة العربية، ويؤشر لصعوبات عقدية من صميم الخيارات الاستراتيجية والأنماط السلوكية المتباينة. ان التوفيق بين الرؤى المستقبلية المتصلة بموقع لبنان من المعادلة الاقليمية وكيفية الذود عن سيادته ودرء مخاطر الانزلاق مجدداً إلى دائرة المواجهة العسكرية مع العدو الاسرائيلي، إضافة الى هيكل البنيان الاقتصادي وأولوياته وتوجهاته، مهمة كأداء لاختلاف مرجعية القياس لدى الأفرقاء. ثم إن توكيد هوية لبنان العربية في اتفاق الطائف والدستور المنبثق عنه، لم يستتبع بانتهاج ما يترجمها في الثقافة السياسية، وحسم مسألة الولاء لموروثها والانتماء الى فضائها والالتزام بمعاييرها. فمن النافل ان الثورة الايرانية ألهمت فريقاً معتبراً وغرست مؤثراتها في نشاطه، كما زودت تشكيله الرئيسي،"حزب الله"، بالخبرات والقدرات ومناهج التنظيم والأدوات الفكرية والتعبويّة. كذلك حافظَ الجار السوري الشقيق على مواقع وحلفاء، وما زال يضطلع بدور ارشادي لانصاره، ويشدهم الى قراءته المنفردة عربياً لأصول تسيير المجتمع وإدارة الصراع العربي - الإسرائيلي ومفهوم السلطة وممارستها، ويتوق الى عودة رعايته وإمساكه بالورقة اللبنانية. تضافرت عوامل، نقيضة في الظاهر ومتكاملة في الواقع ، على اجلاس لبنان في صحن كباش اقليمي ودولي، وجعلته ساحة مفتوحة وساخنة لصراع يتعدى حدوده وطاقته. فكيفما فُسِّرَ الأمر، ثمة اجماع على التوصيف، وتباين حول المسببات والممهدات، بين قائل بالتدخل الأميركي والغربي عامة، وآخر مُناهض لإقحام لبنان في المحور الايراني - السوري. الأخطر أن طروحات جهوية مُغالية ترى فك الاشتباك في العُزلة عن المجتمع الدولي ولا تتلمس المصاعب الناجمة جرّاء السير على هذا النحو، ولا تجد غضاضة في الدعوة إلى تقطيع الأوصال التقليدية واهمال التروي والحكمة الملازمين لنهوض لبنان الاقتصادي واستقراره. فمهما تنوّعت جرعات العداء لسياسة هذا الطرف أو ذاك، أكان استكبارياً أم قريباً في التاريخ والجعرافيا أو الانتساب المذهبي، من غير الجائز استواء السياسة في مقام منفصل كلياً عن المصالح والحاجات، والاقتداء بتجارب لم تعرف لها، الا شعارياً تعبوياً، مقومات نجاح مستديم وانجازات ملموسة محققة لشعوبها. في هذا الصدد، يعطي السجال حيال المحكمة الدولية الدليل الصريح على الدرك الذي انحدرت اليه الخصومة السياسية، ويبيِّن كم هو مغالط وعدمي القفز من الحذر المشروع والتوجس من نيات فرنساوالولاياتالمتحدة الى الاطاحة بكيان المحكمة ومنع كشف القناع عن مرتكبي جريمة العصر بذريعة السيادة، بعد إجماع صريح على مبادئها، انتهى لفظياً موارباً نازعاً الثقة بها من الأساس. ليس الاعتراف بفرادة لبنان والإشادة بخصوصيته بكاف أو مُعفى من البناء على مقتضاه. فموقع لبنان ورسالته ونهضته رهن بجميع أبنائه، المقيمين أولاً، والعاملين في المغتربات والمهاجر بسواء. ولقد رسمت معارج التاريخ معالم شبكة أمان واسعة خارج الحدود ترفد اقتصاده وتعين مجتمعه على توفير سبل البحبوحة النسبية والرفاه. الى ذلك، من المؤكد ان انفتاح الشعب اللبناني على النهضوية والحداثة مكّنهُ من تبوء مركز متقدم في ميادين العلوم والثقافة، داخل الأسرة العربية، وهيأ بيئته للعبور سريعاً باتجاه التثاقف والتواصل مع العالم الأوسع. لذا، من المسلم به أنه يواكب المتحولات ويتلقى باكراً اشاراتها والموجات الارتدادية لعواصف التغيير والثورات. ومن هنا تعامله وتماس شرائح من مجتمعه بالتتابع مع مناخات الثورات وأحلامها ومخاضاتها وقيمها، سواء تلك المؤسسة كالفرنسية والأميركية، أوالطليعية كالبولشفية الاشتراكية ومشتقاتها وتلاوينها العالمثالية، أو ذات الطابع الاحيائي والمسحة الدينية المعادية للهيمنة الغربية والأحادية القطبية. إن"البيت اللبناني بمنازل كثيرة"، مختبر تجذرت في ربوعه أقليات، ألِفَ العصبيات وما تفرزه دورياً من تشنجات وتوتر. بيد أن الأزمة الراهنة اتكأت على اخفاقات بنيوية، عظّمت الانقسام حيال ما يوصف بالمحاور، الحاضرة فعلاً ونفوذاً بواقع الأمر، ونتيجة للتباين في مقاربة راهن الصراع العربي - الاسرائيلي ومبادرة السلام التي أطلقتها القمة العربية المنعقدة في بيروت بالذات. جديد المعطيات يتمثل في استثمار نتائج الحرب العدوانية الاسرائيلية الأخيرة والتأقلم مع مفاعيل القرارات الدولية الناظمة لفك الاشتباك والمظلة الدولية الضامنة لهدوء مسرح العمليات وحماية السيادة اللبنانية عبر الالتزام الصريح بالهدنة والخط الأزرق. ولئن كان موقف الولاياتالمتحدة المتعاطف مع إسرائيل، كياناً وأمناً، معروفاً ومشهوداً ومظهراً من سياسة مستقرة حافظت عليها الادارة الاميركية أياً كان لون جليس البيت الأبيض الحزبي، ديموقراطياً أو جمهورياً، فالمستغرب اعتبار الأمر بمثابة الاكتشاف وإشهار سيف النيل من القوة الأعظم، وتصفية الحسابات معها، على الساحة اللبنانية حصراً، بصفتها الشيطان الأكبر وراعية الارهاب. ولا يسع المراقب والمتابع، الاّ تسجيل نبرة اللهجة المستخدمة وحدة الكلام إزاء الشركاء في الوطن وتخويفهم ومحاولة تجنب الحلحلة والحل الممكن في إطار الوعاء العربي وجهود الجامعة العربية، وبالتالي ملاحظة الشحنات واللقاحات ذات المصدر الايراني، المتقاطعة مع سعي سوري دؤوب للاجهاز على المحكمة الدولية والثأر من القرار الدولي رقم 1559 وتعطيل مفاعيله. ارتضى اللبنانيون تسوية تاريخية في الطائف قبل أقل من عشرين عاماً، حددت حصص الطوائف، وأنهت حرباً أهلية ضارية. إزاء تثبيت السلم الأهلي، تمَّ نوعٌ من التنازل والتعاقد المتبادل، شوّهت حقبة الوصاية السورية مضامينه، وغلَّبتْ مواقع حلفائها آنذاك، وعلى الأخص من شُرِّعَ له العمل المقاوم وأوقف عليه بعد أفول المقاومة الوطنية لأسباب لم يكن الاكراه بعيداً عن منطقها. ولقد نهضت المقاومة الاسلامية بريادة"حزب الله"بدور مجيد في إدارة العمليات وإنجاز تحرير التراب الوطني بفرض الانسحاب الاسرائيلي وإشراف قوات الأممالمتحدة على الخط الأزرق. بعيد الانسحاب، طرأت مسألة مزارع شبعا بنداً استبطنته التحفظات اللبنانية ضمناً خلال المفاوضات، وأفضت الى عمليات محدودة تذكيرية خوَّلت المقاومة الابقاء والتمسك بضروريتها ومشروعيتها ودورها وحقها في امتلاك السلاح. أدَّتْ هذه المهمة الى بسط ولاية"حزب الله"على المنطقة الجنوبية وإفراد مكانة خاصة له في المؤسسة السياسية عوَّلَ عليها الحزب للانفراد بقرار الحرب والسلم والاستنساب في اطلاق وسير العمليات. كان المؤمل والمعلن ضبط المناوشات والاشتباكات وعدم تطورها الى مواجهة شاملة، لكن عملية 12 تموز مقتل 6 عسكريين وخطف اثنين من وراء الخط الأزرق للمقايضة بغية تحرير الأسرى اللبنانيين في السجون الاسرائيلية فجَّرت الوضع برمّته وأخرجت نطاق العمليات عن سيطرة الطرف اللبناني. يتخبّط لبنان راهناً في مأزق صعب، صبَّت عليه ذيول حرب تموز ونتائجها ناراً حامية. وإذ يتفق اللبنانيون على تقدير وإكبار صمود المقاومين، وتضحياتهم، فإنهم على خلاف لناحية تقويم حتمية ما جرى وأسبابه المباشرة ودوافع المحاور الخارجية في استعمالها وتوظيف نتائجها وتبعاتها. ثمة قراءتان مُتباينتان للقرار الدولي رقم 1701 الذي حظيَ بموافقة المقاومة في المقام الأول لاعتبارات تتعلق بالحاجة الى وقف النار. في المقابل، من السذاجة إنكار اندفاع الجبهة المتحالفة مع"حزب الله"داخلياً، والمؤازرة أوالمساندة والملتصقة عضوياً به له إقليمياً، في محاولة استثمار رصيد القتال المشرِّف والصمود من تعاطف شعبي عربي وإشعاع، لإحداث تغيير جذري في جوهر السلطة أو على الأقل إعادة تكوينها لبنانياً على قاعدة الغلبة والمواجهة مع الولاياتالمتحدة والغرب بعامة. أي أن الدعوة لهزيمة أميركا في لبنان، الصادرة بصيغة استشرافية عن المرشد الايراني علي الخامنئي ، تشكل الإطار العام لحراك داخلي تنتظم فيه مجموعة قوى لها حضور وجمهور وقواعد. سوى أن المشكلة والصعوبة إنما تكمن في تجاهل قوى المعارضة للرأي الآخر، واستصغارها ردود الفعل الممانعة والمُتخوّفة من المشاريع الصدامية الحبلى بالمخاطر، والتي تضع لبنان في عزلة عن المجتمع الدولي، وتسكنه رسمياً ومصيرياً في عهدة المحور الايراني - السوري، خارج السياق العربي العام. إن وراء شعار المشاركة، الذي رفعته المعارضة، قطبة مخفية يفصح عنها إفشال مبادرة أمين عام الجامعة العربية، وانحياز رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي الى الجبهة المناوئة للأكثرية، بلا تحفظ أو لُبس. فهي، في حقيقة الأمر والمراد، أقرب ما تكون الى مصادرة كاملة لمفاصل السلطة، دونما ايضاح للدور المتروك لجناح الأكثرية. الحاصل اعتصامات متدحرجة شديدة الوطء على الاقتصاد والمجتمع، ومطالبة بانتخابات نيابية مبكرة لا قانون يعمل به لإجرائها، ومناكفة سياسية قاسية عارية من الضوابط لا تحيد قيد أنملة من الأدلجة والتشكيك بالنيات. باب مغلق بإحكام، لتاريخه، وفريقان وجهاً لوجه، يتصارعان دون ملل أو كلل، فيما تتراكم الخسائر الاقتصادية والمعنوية. اللافت أن جبهة المعارضة صاخبة ملتحمة في مسالك السياسة، وغامضة ضبابية البرامج والمناهج في الحقل الاقتصادي وما يعود للنموذج الاجتماعي المنشود. والعبرة ان اللاءات ما صنعت مجتمعاً متصالحاً يوماً وما حصّنت كياناً سياسياً، بل دفعت الأزمة، مهما كان القصد، الى المأزق والطريق المسدود. * كاتب لبناني