تروي سيدة أوروبية مقيمة في العاصمة الصينية أنّها انزلقت أكثر من مرّة في شوارع بكين خلال إقامتها هناك بسبب عادة الصينيين في البصق المتكرّر على الأرض. ولكنّ شوارع بكين تخلو هذه الأيّام من الباصقين. فجزء من حملة الآداب العامة التي أطلقتها الحكومة الصينية يقوم على منع ظاهرة البصق في الأماكن العامة غرامة البصق تصل إلى 6 دولارات وتوزيع أكياس الورق على الناس لتشجيعهم على البصق داخلها وعلى رمي الأكياس داخل سلاّت المهملات بعد ذلك. ويروي صديق آخر أنّه لم يعد يعلق في مترو بكين بعد أن قامت الحملة نفسها بتدريب الصينيين على الوقوف بالصف للدخول إلى المترو، بحيث يسنح للراغبين الخروج منه أوّلاً قبل دخول الحشود الكبيرة من الركّاب الذين يستعملون المترو يومياً. وقد خصص اليوم الحادي عشر من كل شهر لتدريب الناس على الوقوف في الصف. ولكن يبدو أنّ حملة الآداب هذه قد فشلت في جوانب أخرى، فالمئة كلمة باللغة الإنكليزية التي كان يفترض على سائقي التاكسي تعلّمها قبل الألعاب الأولمبية لا يبدو أنّهم حفظوها، فهم لا يزالون يستقبلونك في سياراتهم الجديدة المكيّفة منعت كل سيارات الأجرة القديمة هذا الصيف بنظرات استفهام كبيرة إلى أن تعطيهم ورقة كتب عليها العنوان المطلوب باللغة الصينية. يرى بعضهم أنّ هذه الحملة جزء لا يتجزأ من توتاليتارية نظام الحكم الصيني الذي يريد أن يتحكّم بدقة بصورة الصين خلال الألعاب الأولمبية. يرون أنّ الحملة ترتبط مثلاً بمحاولة الحكومة الصينية حصر البث الحي من ساحة تيانانمين، على رغم الاعتراضات الكبيرة لوسائل الاعلام الغربية التي اشترت الحق الحصري في النقل الحي للألعاب الأولمبية، خوفًا من قيام اعتصامات في هذه الساحة التي قامت فيها اعتصامات الطلاب الشهيرة عام 1989. لكنّ الصينيين أنفسهم لا يرفضون بالضرورة حملة الحكومة هذه. فكثيرون منهم يعبّرون عن فخرهم في استقبال عاصمتهم الألعاب الأولمبية، معتبرين أنّ العالم يعيد الاعتبار أخيراً لبلدهم ولمكانته في العالم. وهم يريدون أن يظهر وطنهم بأزهى حلة، وأفضل من العواصم الأخرى التي استقبلت الألعاب الأولمبية في السابق. علماً أنّ جزءاً من حملة الآداب نفسها يقوم على تخفيف مظاهر التعصب خلال الألعاب، إذ يشجّع الصينيون على التصفيق للفرق الأخرى، وإظهار الروح الرياضية في حال خسارتهم أمام بلد آخر مع أنّ الصينيين يتوقعون لأنفسهم طبعاً العديد من الميداليات الذهبية. في بكين مواقع كثيرة لمتطوعين ومتطوعات صينيين شباب يلبسون ثياباً متطابقة حتى أحذيتهم الرياضية متطابقة ويتكلّمون بعض الانكليزية ومهمّتهم إرشاد ومساعدة السياّح في رحلتهم. ولكنّ مهمّتهم هذه ليست سهلة نظراً للتعقيدات الكثيرة التي تترتّب عن تنظيم دقيق لحدث هائل كالألعاب الأولمبية. وقد جاءت تعليماتهم في المطار مثلاً متضاربة. فمطار بكين، على رغم حداثته، أو ربّما بسببها، لم يتوضّح بعد نظامه. ويتوقّع البعض أن يضلّ السيّاح فيه طريقهم لدى وصولهم إلى عاصمة سيتيهون فيها ايضاً، وذلك بسبب صعوبة التواصل مع الصينيين إذ ان نسبة ضئيلة منهم فقط تستطيع التكلّم بالانكليزية أو باللغات الأجنبية الأخرى. من جهة ثانية، يعبّر بعض الصينيين عن خشيتهم من أن ينتهي مفعول الاستثمارات الباهظة التي صرفتها الحكومة على الألعاب الأولمبية بانتهاء الألعاب، فتشكّل عبئًا على اقتصاد البلد وعلى الصينيين أنفسهم في السنوات المقبلة. وهم يتساءلون ما إذا كانت ستتوقف عمليات تنظيف الشوارع المستمرّة لتعود النفايات إلى الأرصفة، ويختفي شرطيو السير فيعود المارّة ليتجاهلوا الضوء الأحمر ويعبروا الشوارع متى يشاءون، ويتساءلون ايضاً ما إذا كانت السيّارات القديمة ستعود إلى الطرقات والبصقات الكثيرة إلى الأرصفة. ليس من الواضح أصلاً أنّ هذه الاجراءات المختلفة سيتمتّع بها الكثير من السيّاح. فالحكومة الصينية قامت بهذه التحسينات كلّها في الوقت عينه الذي اتخذت سياسة صارمة حول منح تأشيرات الدخول للأجانب. فقد قرّرت إجبار كلّ من يريد الحصول على تأشيرة دخول جديدة أو تجديد تأشيرة قديمة على العودة إلى بلده الأصلي. الأمر الذي أدّى إلى صعوبات كثيرة بالنسبة للأجانب الموجودين أصلاً في الصين، خصوصاً رجال الأعمال منهم، الذين لم يعد بامكانهم تجديد تأشيرات الدخول من خلال السفر السريع إلى هونغ كونغ. وبدت بكين، بفنادقها الفخمة الكبيرة التي بنيت خصيصاً لمناسبة الألعاب الأولمبية، شبه خالية من السيّاح الأجانب قبل بدء الموسم الأولمبي. ولا يتوقّع أن يظهروا بأعداد ملحوظة إلاّ عند بدء الألعاب ليرحلوا عند انتهائها، إذ لا تسمح لهم تأشيرات الدخول بالتنقّل في بكين قبل أو بعد ذلك. والتحضيرات أصلاً طالت مدّتها، فخطوط المترو الجديدة افتتحت فقط قبل عشرة أيام، والترميمات في"المدينة المحرّمة"، وهي من أهم المواقع السياحيّة في بكين، لم تنته إلاّ قبل أسبوعين من بدء الألعاب، وبعض ورش البناء لا تزال قائمة في المناطق السياحيّة من العاصمة. ويبدو أنّ بكين، في استقبالها للألعاب الأولمبية، لا تطمح لجني الأرباح المادية بقدر ما تطمح لنشر صورة معينّة عنها في العالم. صورة عن مدينة عصرية ومنظمة، هي عاصمة لقوّة عالمية صاعدة. وكما تفعل البلدان الأخرى، فالصين تستثمر في الألعاب الرياضية لأهداف سياسيّة. فبحسب كتاب جديد حول الموضوع، فإنّ الصين، منذ مشاركتها الأولى في الألعاب الأولمبية عام 1932، أرادت أن تحقق مكسباً سياسياً. هدفها كان في البدء منافسة اليابان، أمّا لعبة البينغ بونغ فكانت وسيلة لتقارب صيني أميركي عام 1971. كما شجّع الحكّام الصينيون منذ عهد الجمهوريين الرياضة بهدف تغيير الصورة التقليدية عن الرجال الصينيين الذين يهيّئون أنفسهم لحياة بيروقراطية فيركّزون على تنمية قدراتهم الذهنية وقدرتهم على الاستمرار والصبر والصمود، لا على قوّتهم ولياقتهم الجسديّة. وقد أنشئ ما يسمّى بالجامعة الرياضيّة في الصين في الخمسينات للتشديد على أهمية التنمية الجسديّة. ويفخر الصينيون بقوة بلاعب كرة السلّة الصيني ياو مينغ الذي وصل إلى الNBA فرفع راية بلده عالياً. تعترض الحكومة الصينية والكثير من الصينيين على"تسييس"الألعاب الأولمبية الذي أدّت إليه الاعتصامات العديدة التي رافقت الشعلة الأولمبية في مدن أوروبية وأميركية للاعتراض على سيطرة الصين على التيبت. ويبدو اعتراض الصينيين غير مقنع نظراً ليس فقط إلى العلاقة بين الرياضة والسياسة في الصين نفسها، بل أيضاً بسبب ارتباط السياسة بالألعاب الأولمبية منذ نشأتها. ولكنّ السؤال يبقى ما إذا كانت المنفعة السياسة للألعاب الأولمبية ستترجم في تحسين الحياة اليوميّة للصينيين العاديين، أم ستنحصر بالحكومة الصينيّة التي ستزيد من قوّتها وسيطرتها على المجتمع.