مدينة في مدينة. كانت تعرف بالمدينة المحرّمة، قبل أن يعيد الشيوعيون تسميتها ب "القصر المتحف". عاشت فيها السلالتان الأخيرتان من الأباطرة لمدة تقارب ال 550 سنة، وآخرهم سمح الجمهوريون له بالعيش في"المدينة"، حتى بعد أن تسلّموا الحكم، إلى أن طرد منها في عام 1924. عاش فيها كما عاش الأباطرة الآخرون قبله، محاطًا بالحريم والحرّاس المخصيين الذين لم يسمح لرجال غيرهم بالبقاء داخل الأسوار. مدينة الأباطرة هذه مدينة شاسعة، تحتوي على مئات من المباني ذات القرميد الأحمر المجنّح على الطريقة الخاصة بالصينيين، مزخرف أسفلها بكتابات ورسومات حيوانات مذهبة وملوّنة، قراميد متراصة تمتدّ إلى الأفق البعيد. هنا قاعة"التنمية الفكرية"، وهناك قاعة"الحفاظ على الانسجام"، هنا قصر"العفة السماوية"، وهناك"بوابة السلام السماوي". يتيه المرء في هذا العالم شبه الخرافي، إلى أن توقظه حفلات الترميم الكثيرة، التي تركزت، قبل بدء موسم الألعاب الأولمبية وقدوم السياح، على المباني المركزية. والمدينة كبيرة لدرجة أنّ ترميمها يقتضي حوالى 10 سنوات، أي أنه لا يكاد أن ينتهي حتى تستدعي الحاجة دورة جديدة من الترميم. هدّد الحرّاس الحمر، حراس الثورة الثقافية التي أطلقها ماو تسي تونغ في الستينات، بتدمير المدينة التي مثلت تاريخ الصين الامبريالي الاقطاعي الطويل. ولكن، وكما يذكرك الدليل الأوتوماتيكي الملون الذي يمكن استئجاره عند مدخل المدينة المتحف، فإن شو إن لاي، رئيس الحكومة وقتها، أنقذها من التدمير. المتشائمون يقولون أنّ شو إن لاي لم يحافظ على المدينة لأهميتها التاريخية، بل لمنفعتها الاقتصادية السياحية. وبالنظر إلى الصفوف الطويلة من السيّاح، ومعظمهم من الصينيين، فإن مدينة الترف الملوكي هذه تمثل فعلاً أهم ما تقدّمه بكين الشيوعية لزائريها. والسيّاح هؤلاء توازيهم صفوف طويلة من الزائرين يصطفون في صف طويل جداً جنوبالمدينة المحرّمة حيث يقع ضريح ماو. ينتظرون ليدخلوا دقائق معدودة الى المبنى الذي لا يحرّره بعض القرميد الأحمر من ضخامة شكل يفتقر إلى رهافة في التصميم، كما هي عليه عادة المباني ذات الهندسة السوفياتية. أمامه تمثالان كبيران يمثلان مجموعتين من الثوار يرفع من في مقدمتهم يد الانطلاق إلى الأمام، وتتبعه مجموعة من الرجال والنساء الرافعي الرؤوس الحاملي البنادق. وقبل الدخول، يطلب الحرّاس الصارمو الشكل من الزائرين السكوت ونزع قبعاتهم، فيحمل الأخيرون باقات الورود بخشوع، يضعونها من دون أي ضجة أمام تمثال ماو الذي يستقبلهم عند المدخل، ثم ينتقلون منه ليروا ما هو أكثر شبهًا بماو الحقيقي من التمثال، ألا وهي مومياء ماو المستلقية داخل قالب من الكريستال. يشير الحرّاس لهم بالتحرّك بسرعة، ثوان قليلة فقط تقع فيها أعينهم على وجه ماو المستريح، المتألق البشرة، قبل أن يتركوا الصالة التي يملؤها شيء من التشنّج الناجم عن إضمار تعبيرات التعجّب والانفعال أمام القائد المحافظ على هيبته حتى بعد موته. ولا يفصل المدينة المحرّمة وزائريها عن ضريح ماو وزائريه غير ساحة تيانانمين الشهيرة التي تحمل بوابتها الشمالية الحمراء صورة عملاقة ماو وعلى يساره شعار"تحيا جمهورية الصين الشعبية"وعلى يمينه شعار"تحيا وحدة شعوب العالم". ساحة تيانانمين، قلب المدينة، هي الآن مسوّرة، يحرسها شرطيون، ولا يسع المرء الوصول إليها سوى من مدخل وحيد. وهي ليست إلاّ مساحة فاصلة بين متحفين، مساحة عابري طريق، بدلاً من أن تكون المساحة العامة التي تعج بالناس كما كانت عليه قبل أن تقوم فيها اعتصامات الطلاب عام 1989 والتي اشتهرت بعنف رد الحكومة عليها والمجزرة التي انتهت إليها. يجاور ساحة تيانانمن من الجهة الغربية المسرح الوطني الجديد، والمعروف ب"البيضة"لشكله الدائري. وتحيط به كلّه بركة مياه كبيرة، فلا يسع الدخول إليه إلاّ من مدخله الكامن تحت المياه. وهذا المدخل الوحيد ينحصر الدخول منه بحاملي بطاقات الحفلات ذات الأسعار المرتفعة بالنسبة لمدخول الصينيين. أمّا بركة المياه فقد طوّقت بحبل لمنع الناس من الاقتراب منها، ويضبط شرطيان احترام الجميع للتعليمات. وظاهرة منع الناس من الاقتراب من المباني الجديدة لا تنحصر في وسط المدينة. فالأمر سيّان شمال بكين حيث الملعب الأولمبي المعروف ب"عش العصافير"بسبب تكوّنه من عواميد حديدية ضخمة متشابكة على شكل لولبي، ومركز الألعاب المائية الأزرق اللون المجاور له. يضطر الناس لمشاهدتهما من مسافة بعيدة. يقفون لأخذ الصور مع المبنيين خلفهم، فترى في الصور وجوههم المبتسمة وخلفها أسوار حديدية بيضاء ويبدو في الأفق البعيد المبنيان وكأنهما حبيسان في سجن واسع. والوضع نفسه بالنسبة لمبنى التلفزيون الرسمي الجديد، والذي يعتبر، بشكله الزجاجي الضخم المكون من برجين مائلين مرتبطين بطريقة يبدو فيها المبنى غير متناسق، من أهم الانجازات الهندسية في العالم اليوم. والمبنى، بمعزل عن رؤية المهندس له كمبنى مفتوح على بيئته، تخطّط الحكومة الصينية الى إغلاق طريقين مؤديين إليه وحصر جزء كبير منه بموظفي التلفزيون. كما أنّه، وعلى رغم أهميّته الهندسيّة، فقد انتقد البعض المهندس الهولندي الذي صمّمه بصفته المساهم الأساسي في بناء مبنى سيؤوي مؤسسة تقوم على البروباغاندا. ولا تتحكّم الحكومة فقط بمباني بكين، بل أيضًا بالبيئة في العاصمة. فبكين العاصمة معروفة بتلوّثها، وسماؤها الرمادية، التي تسيطر عليها غالباً غشاوة كالغبار، دليل يصعب اخفاؤه. وعلى رغم ذلك، فإنّ الحكومة تحاول اخفاءه، من خلال منع المصانع وورشات البناء الكبيرة من أي نشاط في الأسابيع التي تسبق الموسم الأولمبي، وكذلك من خلال ضبط استعمال السيارات السيارات المصنّفة"مفرد"مسموح قيادتها في الأيام المفردة، والسيارات المصنفة"مزدوج"لا تسير إلاّ في الأيام المزدوجة. كما تحاول بكين منع هطول الأمطار وقت الألعاب من خلال ضرب الغيوم بالقنابل لتفجيرها كلّها قبل أن تفتتح الألعاب. ليس من الغريب إذن أن تكون الصين قد صرفت أموالاً ضخمة على الألعاب الأولمبية، فاقت ما صرفه أي بلد آخر في تاريخ هذه الألعاب. وهي بنت مطارًا مدهشًا، إلى جانب المباني المذكورة أعلاه. والمباني هذه كلّها تعبّر عن نظرة عصرية إلى مستقبل المدينة. طبعاً بيوت كثيرة هدمت لتقوم المباني والطرقات الجديدة مكانها، والحكومة الصينية معروفة بضآلة التعويضات التي تدفعها للذين يخسرون منازلهم أمام التوسّع المديني. ولكن الفارق كبير بين الخسارة هذه، وبين خسارة أزقة بكين التقليدية حيث لم تكن تدخل السيارات ويعيش الجيران حياة شبه جماعية. الأزقة كانت تدمّر لتقوم مكانها مبان من الباطون تفتقد إلى أي روح أو جمال. أمّا المباني الجديدة فهي على الأقل تعبّر عن رغبة في ترجمة قوة الصين الصاعدة وتقديم العاصمة كساحة لتجارب هندسية، ضخمة كضخامة الصين وتاريخها، في عظمتها ترف الأباطرة وهيبة ماو، وتمثل واحدة من أكثر التجارب الهندسية إبداعاً في العالم. وأخيراً، ما بين الأباطرة وماو، ترافق التجارب الهندسية التجديدية نزعة نحو العودة إلى الجذور، عبر إعادة إحياء تراث الصين الكونفوشي. في عهد ماو، خصوصاً خلال الثورة الثقافية، دشّن الشيوعيون حملة ضد الكونفوشية التي اعتبرت، مثلها مثل الديانات الأخرى، وبالأخص البوذية، رمزاً اقطاعياً وأفيوناً للشعوب. وقد اعتبر كونفوشيوس نفسه، الذي توفي قبل قرنين من توحد الصين للمرّة الأولى تحت سيطرة قائد سمّى نفسه امبراطوراً عام 221 قبل الميلاد، بورجوازياً تحدر من عائلة غنية مع أنه هو نفسه كانت حاله متواضعة، واعتبرت تعاليمه بورجوازية لأن من ركائزها التراتبية واحترام الصغير للكبير والموظف لرئيسه والوزير لقائده. وبما أنّ السلالة الثانية من الأباطرة اتخذت من الكونفوشية عقيدة لها، فإنّ الكونفوشية ارتبطت منذ انتشارها ارتباطًا وثيقاً بالحكم الامبراطوري، فجاء الانقلاب على الأباطرة انقلاباً على كونفوشيوس أيضاً. ولكن الحكومة الصينية تحاول اليوم إعادة الاعتبار إلى الكونفوشية، ويرى البعض أنّ السبب في ذلك يكمن في فشل الشيوعية كمعتقد جامع للأمّة الصينية، خصوصاً بعد أن خطت الصين خطوات طويلة نحو الانفتاح الاقتصادي ما يعرف بالرأسمالية ذات الخصوصية الصينية. وتركز حملة إعادة تقديم الكونفوشية كركيزة أساسية في ثقافة الصين على جانبها التربوي، فيصوّر كونفوشيوس في المعرض الجديد في المعبد الوحيد في المدينة كأستاذ، يعلّم طلاّباً من أوضاع اقتصادية مختلفة على أهمية التنمية الأخلاقية التي لا ينبع إلاّ من خلالها مجتمع خال من النزاعات. بعض التفسيرات الجديدة للكونفوشية التي تلقى رواجاً كبيراً في الصين اليوم تركّز على الجانب الروحي الداخلي للكونفوشية، فتكون الكونفوشية معها أقرب إلى الديانات الأخرى التي تقوم على ايجاد هدف أخلاقي يسعى كلّ إنسان إلى تحقيقه في الحياة. ونظراً إلى رواج هذا النوع من التفسيرات، والذي يعود في الحقيقة إلى ما يعرف بال"نيو كونفوشية"وهي نزعة ظهرت في القرن الثالث عشر، يرجع البعض رواج الكونفوشية اليوم إلى توق الصينيين إلى معنى وهويّة في خضم التغييرات الاجتماعية الهائلة التي يشهدها بلدهم. ولكن تفسيرات أخرى للكونفوشية تزداد شعبيّة اليوم، خصوصاً في أقسام الدراسات الصينية في الجامعات الغربيّة، تركّز على بعدها الاجتماعي الخارجي، الذي يتجلّى في قوّة القيم الجماعية، خصوصاً العائلية منها. وبالطبع فإنّه من الصعب بلورة القيم العائلية في الصين اليوم في ظل سياسة الطفل الواحد التي تفرضها الحكومة، فتصبح العائلة معها ثلاثية الحجم تتمحور حول الولد الوحيد، يتركّز اهتمام الجميع عليه، ويفتقر فيها إلى أخوة ينمّي معهم قيم التبادل والتشارك والمعاملة بالمثل التي تنادي بها الكونفوشية. ولكنّ القيم الجماعية تظهر في جوانب أخرى غير متوقعة. فالكاتب الأميركي دانيال بيل يرى مثلاً أنّ قيم الانسجام الكونفوشية تتجلّى في مقاهي الكاراوكي الشائعة جداً في بكين، حيث يلتقي الأصدقاء في شكل دائم للغناء سوياً. يغنّون مع بعضهم البعض ويأكلون من المائدة الجماعية التي تميّز طريقة الأكل الصينية، ويلجأون إلى الموسيقى والأصدقاء هرباً من عجقة الشوارع وحفلات البناء الكبيرة التي هدفها إبهار السيّاح الأجانب والتي، وعلى رغم فخرهم بها، تتعبهم أيضاً.