"لزمن طويل بعد أن يموت الشعراء، تظل أغنياتهم تتجول في الطرقات". يوسف شاهين لم يكن شاعر لغة، لكنه كان بالتأكيد شاعر سينما، وبالتأكيد سيبقى العدد الأكبر من أفلامه/ قصائده، حياً في وجدان وعيون عشرات الملايين من الذين شاهدوها، وسيشاهدونها، فسينما يوسف شاهين لا تموت، كحال السينما الكبيرة كلها. وهي كانت وتبقى سينما كبيرة، إن لم يكن في افلامه كلها، ففي عدد كبير منها. يوسف شاهين الذي توفي أمس الأحد عن 82 عاماً أنجز بين الحين والآخر، أفلاماً أرضت السوق و"الجمهور"العريض، لكنه حقق في مساره السينمائي الذي قارب الستين عاماً، أفلاماً أخرى ربما تكون غالبية أعماله، أرضته كفنان وأرضت النقاد والمثقفين والمحبين الحقيقيين للسينما، وإن كانت رجمت بعد عروضها الأولى. فمن"بابا أمين"الى"هي فوضى؟"تسجل فيلموغرافيا الرجل الذي استحق دائماً لقب"عميد السينما العربية"نحو أربعين فيلماً بين روائي طويل ووثائقي قصير، سجلت في حد ذاتها، ومرحلة بعد مرحلة، علامات انعطافية في السينما المصرية بخاصة، ولكن، بالواسطة، في بعض السينمات العربية الأخرى. وهنا، نفكر، بالطبع، بأفلام النقد الاجتماعي وأفلام الغضب السياسي، ولا سيما أفلام السيرة الذاتية، التي كان شاهين، وليس فقط منذ"اسكندرية ليه؟"مفتتح تيارها والفنان الذي شق طريقها أمام عدد من متابعيه في تونس أو لبنان، في سورية أو المغرب. راجع ص15 ولم تكن ريادة شاهين في هذا الميدان مكللة بالغار، بل كلفته كثيراً، لكن"جو"الذي كان منذ يفاعته قرر ألا تكون له مهنة في حياته غير السينما، لم يبال، بل سار في طريقه متمرداً مشاكساً، محللاً غاضباً، لا توقفه رقابة ولا يحده اطار. ولولا هذا لما عرفت السينما المصرية روائع تصنف دائماً في أفضل مئة فيلم في تاريخها، من"الأرض"الى"العصفور"ومن"باب الحديد"و"الاختيار"و"فجر يوم جديد"الى"بياع الخواتم"في لبنان و"المهاجر"، وخصوصاً"اسكندرية/ نيويورك". واذا كان شاهين اشتهر برباعية سيرته الذاتية أفلام"الاسكندرية"الثلاثة و"حدوتة مصرية" بوصفها سلسلة أفلام رسم فيها، من دون سرد تاريخي خطي، صوراً من حكاية حياته وحكاية السينما في تلك الحياة، فلا بد من القول إن سينما شاهين، ومنذ"بابا أمين"، تكاد تكون كلها سيرة متواصلة لهذا الفنان الذي، حتى حين استقى مواضيع أفلامه من أعمال كتاب آخرين، عرف دائماً كيف يكيفها مع تطلعاته وما يريد أن يقول. ولدى ذكر اخراج يوسف شاهين ل"بياع الخواتم"عن أوبريت الأخوين رحباني الشهيرة في بيروت، لا بد من الاشارة الى ذلك البعد العربي العام، الذي جعل من صاحب"الأرض"واحداً من أكثر المخرجين المصريين انفتاحاً على الهموم العربية كما تجلت خارج مصر، ما أوصله دائماً الى الشأن السياسي، في شكل مباشر أو أقل مباشرة في أفلام دنت من القضية الفلسطينية "الأرض" أو القضية الجزائرية "جميلة الجزائرية" أو الحرب الأهلية اللبنانية "عودة الابن الضال" أو حتى العولمة اسكتش في الفيلم الجماعي"11/9"، ثم"الآخر"... أو دور أميركا - في رأيه - في مشاكل العالم العربي والعالم في شكل خاص "الآخر"... و"اسكندرية/ نيويورك". لا يمكن القول، بالطبع، إن هذه الأفلام كلها كانت تحفاً، لكنها وغيرها من أعمال شاهين، كانت تعبر دائماً عن سينما حاضرة في العصر، منفتحة على العالم، داعية الى التمرد والتسامح في آن، سواء كانت تاريخية مؤدلجة ك"الناصر صلاح الدين" أو سياسية دعائية ك"الناس والنيل" أو أعمالاً أصلية كغالبية أفلامه الكبرى، فسينما شاهين، التي لن تموت أبداً بموته الذي سيحرمنا من جديده الذي كان دائماً بالمرصاد، كانت سينما متنوعة، ذكية، معاصرة، وهذا ما كرس صاحبها، واحداً من كبار سينمائيي العالم، بشهادة مهرجان"كان"وأهل المهرجان الذين خصوا شاهين، عام 1997، بأرفع جائزة أعطيت في تاريخ المهرجان: جائزة الخمسينية سعفة ذهبية خاصة لمجموع أفلام شاهين طوال مسيرته.