حظيت رواية "برهان العسل" للشاعرة السورية سلوى النعيمي المقيمة في باريس برواج عالميّ بعد أقل من عام على صدورها. فهي سرعان ما ترجمت الى لغات أجنبية وما برحت تترجم. الرواية القائمة على قراءة التراث"الاروسي"العربي قد تغري القارئ الغربي أكثر من القارئ العربي القادر على الرجوع مباشرة الى مصادرها الأم. فالأروسية أو"الجنسانية"العربية لم تفقد سحرها الذي رسّخه الاستشراق في مخيلة القارئ الغربي، وما برحت النصوص واللوحات التي أنجزها الرحالة الغربيون خلال تجوالهم في الشرق تجذب المزيد من المهتمين الذين لم يبالوا بما طرأ من أحداث ووقائع خالفت النظرة الاستشراقية التي سادت فترة طويلة. رواج الرواية لا يدينها مثلما دان الرواج سابقاً أعمالاً كثيرة نجحت في ترجماتها الأجنبية أكثر مما نجحت في لغتها العربية. وإن بدت كأنها كتبت لتخاطب قارئاً غربياً مجهولاً فهي تتوجه أيضاً الى القارئ العربي وتدغدغ ذاكرته الاروسية مباشرة. إنها رواية مركبة بذكاء وبساطة وقد عرفت صاحبتها كيف توظف التراث"الممنوع"أو"المسكوت عنه"لمصلحة نصها. لعله"الاستشراق"مستعاداً بأقلام عربية لا أجنبية، وقد يحلو لبعضهم أن يسمّوه"الاكزوتيكية"التي طالما اعتمدها الكتّاب العرب الذين اختاروا الفرنسية أو الإنكليزية لغة تعبير، وغايتهم جذب القراء الغربيين. والأمثلة كثيرة ولا تحتاج الى التذكير بها. الحمّام المغربي على سبيل المثل كتبت عنه نصوص روائية وقصصية لا تحصى حتى غدا كأنه يختصر المشهد المغربي... هذا الأدب"الاكزوتيكي"ليس حقيقياً ولا أصيلاً وإن بدا جميلاً في أحيان، أو مغرياً... وهو يمس"الغرائز"الخفية لدى القارئ ويثير فضوله في الاطلاع على ناحية شبه مجهولة من الحياة العربية الخاصة أو العامة. ولا يتوانى هذا الأدب عن استعادة"مفاتيح"اللعبة الاستشراقية ولكن لأهداف أخرى، وفي مقدمها العبور الى العالمية وإبهار القارئ الغربي ولو على"حساب"الأدب نفسه والهوية نفسها... قد لا تكون استعادة مقولة"الاستشراق"الآن في صيغتها الجديدة مستغربة، فهذه"المقولة"سرعان ما تقود القارئ الى كتاب إدوارد سعيد"الاستشراق"الذي لا يزال راهناً جداً وحديثاً جداً. والمصادفة أن الأوساط الأكاديمية الأميركية تحتفي اليوم بالذكرى الثلاثين لصدوره مثلما احتفت قبل خمسة أعوام بذكراه الخامسة والعشرين. ما أحوج القارئ العربي والغربي الى العودة الى هذا الكتاب لا سيما بعد صعود موجة الأدب"الاكزوتيكي"بملامحه الاستشراقية الجديدة. ثلاثون عاماً على صدور"الاستشراق"بل ثلاثون عاماً على الصدمة التي أحدثها إدوارد سعيد عبر هذا الكتاب الفريد الذي أعاد النظر في العلاقة بين الشرق والغرب، فاضحاً مفهوم"الاستشراق"بخفاياه وأخطائه وپ"سمومه"كما يحلو لبعضهم أن يقول. هذا الكتاب تزداد الحاجة الى قراءته وإعادة قراءته عقداً تلو آخر، بحثاً عن أجوبة على الأسئلة الكثيرة التي ما فتئت تطرحها"العلاقة"بين الشرق والغرب لا سيما بعد حادثة الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، واندلاع حرب العراق وصعود الإرهاب الأصولي... لقد اكتشف الغرب فعلاً أن الشرق ليس البتة ذلك الشرق الذي"تغنى"به الرحالة، رسامين وشعراء وروائيين، بل هو شرق آخر، شرق حافل بالأزمات سياسياً وفكرياً ودينياً، شرق يعاني ويكابد، شرق منقسم على نفسه وفي صراع مع نفسه... كان إدوارد سعيد مصيباً جداً في نقده مفهوم الاستشراق وخلفياته السياسية والأيديولوجية والاستعمارية. فالشرق ليس عالم المخيلة والجنس والحريم والعبيد والراقصات والعطور والوسائد... وليس الشرق أيضاً عالم"ألف ليلة وليلة"بغرائبه وعجائبه ولا مكاناً رومنطيقياً بطبيعته وشمسه وقمره... واجه إدوارد سعيد النظريات المسبقة والجاهزة التي رسخها المستشرقون ممهدين لحركة الغزو الغربي والاحتلال والاستعمار، وانتقد تقصير المستشرقين في البحث عن حقيقة الشرق وحضارته وتخلّيهم عن الموضوعية وپ"الخبث"الذي أضمروه إزاء هذا العالم الذي كان مهد الحضارات القديمة. ولا بد هنا من استثناء بضعة مستشرقين حقيقيين خدموا الثقافة العربية وأضاءوا زوايا كثيرة منها، وعملوا بجهد ودأب على إجلاء صورتها، من أمثال: لويس ماسينيون وآنا ماريا شيمل وسواهما... ولئن أحدث كتاب"الاستشراق"صدمة في الغرب بعدما ترجم الى لغات شتى وكان له أثره في الثقافة الغربية المعاصرة، فهو لم يتمكن من إلغاء الصورة التي عممها المستشرقون أو الرحالة الغربيون عن الشرق، ولا من كسر النظرة"الاكزوتيكية"التي روّجتها النصوص والأعمال الفنية. فهاتان، الصورة والنظرة، بدتا أشد رسوخاً من أي مقاربة تناقضهما، أو تنقضهما وظلتا مهيمنتين على الذاكرة والمخيلة الجماعيتين في الغرب. وقد لا يُفسّر نجاح الأدب العربي"الاكزوتيكي"، سواء كتب بالعربية وترجم، أم بالفرنسية والإنكليزية وسواهما، إلا من خلال هاتين، الصورة والنظرة، اللتين تصعب إزالتهما من وجدان الكائن الغربي. هكذا يمكن فهم رواج رواية"برهان العسل"التي حملت الى القارئ الغربي ملامح من"الأروسية"العربية وكذلك رواج رواية"بنات الرياض"التي أضاءت عالماً مجهولاً بعلاقاته، وأيضاً رواج الكثير من الأعمال الروائية المكتوبة باللغات الأجنبية وفي مقدمها روايات للطاهر بن جلّون في فرنسا ورفيق شامي في ألمانيا. انه"الاستشراق"ولكن بأقلام أهل هذا الشرق، الشرق العربي.