ثمة سجال عريض أميركي وغير أميركي ليس له أن يتوقف إزاء شكل عالم اليوم والغد القريب، ونمط العلاقات الدولية الذي يمكن أن ينظمه. السؤال الأكثر إلحاحاً في قلب هذا السجال هو عن موقع أميركا وما إذا كانت ستواصل المحافظة على موقعها القيادي والمؤثر في العالم، وتتواصل مع استمرار ذلك صيغة"الأحادية القطبية". في المقابل هناك أطروحات تقول إننا دخلنا بالفعل حقبة"التعددية القطبية"وإن دور الولاياتالمتحدة ونفوذها في تراجع مستمر. وهناك أيضا من يقول إن العالم يتجه إلى شكل"لا قطبي"حيث تختفي صيغة وجود قوى كبرى تتحكم بمسيرة العالم مقابل بقية الدول والشعوب، وتنشأ عوضاً عن ذلك شريحة واسعة من اللاعبين الدوليين، دولاً وغير دول، ذات قوة ونفوذ متقاربين. منظرو استمرار"الأحادية القطبية"يقولون إن صعود الصينوروسياواليابانوالهند، لن يؤثر على المكانة القيادية الأميركية، وستظل الولاياتالمتحدة قادرة على إخضاع الآخرين لسيطرتها. ولمواجهة صعود هذه القوى فإن كل ما تحتاجه الولاياتالمتحدة للبقاء في موقع القيادة العالمية والسيطرة هو تغيير سياساتها الخارجية أساساً ثم الداخلية. والتغيير المطلوب الذي ينادي به هؤلاء المنظرون، للمفارقة، يتخذ شكلين متناقضين بحسب موقع هذا المنظر أو ذاك. فمثلاً يدعو الكاتب الأميركي فريد زكريا رئيس تحرير أسبوعية"نيوزويك"، وأحد أهم الكتاب الأميركيين المعاصرين، إلى سياسة أميركية غير إمبريالية وتعاونية مع الدول الأخرى، لأن ذلك سيعزز موقع أميركا ويضمن لها مواصلة قيادتها للعالم. يرى زكريا أن الاقتصاد الأميركي ما زال الأقوى في العالم، والأكثر إبداعاً في أهم المجالات: الكومبيوتر، التكنولوجيا الحيوية، التعليم الجامعي، وكذلك الأكثر شباباً وديموغرافية على عكس المنافسين الآخرين الصين، روسيا، وأوروبا - ما عدا الهند في هذه النقطة. وأن القوة العسكرية الأميركية ما تزال الأقوى بشكل لا يمكن مقارنتها فيه مع كل القوى الصاعدة الآخرى. فحجم انفاق اميركا العسكري يتجاوز حجم الانفاق العسكري للدول الأربع عشرة التي تأتي بعدها من حيث القوة، كما أن حجم إنفاقها على بحوث العلوم العسكرية يتجاوز ما ينفقه بقيه العالم بأسره. لكن نقطة ضعف الولاياتالمتحدة تكمن في سياستها، وهي السياسة التي تضعف كل جوانب تلك القوة، وتؤلب الدول الأخرى ضدها، وتفقدها نفوذها. وهكذا فإن الفرصة ما زالت مُتاحة للولايات المتحدة كي تُنقذ موقعها القيادي والمهيمن على العالم عبر تغيير السياسة. في المقابل هناك من يرى أن شكل"التغيير"المطلوب في السياسة الأميركية يجب أن يكون في الاتجاه المعاكس تماماً: أي أن يكون أكثر إمبريالية وأكثر إصراراً على تحقيق"أهداف الإمبراطورية الأميركية". ومن أهم المفكرين أصحاب هذا الطرح المؤرخ نيل فيرغسون في كتابه الشهير"الهيكل: صعود وأفول الامبرطورية الأميركية". ففيرغسون يجادل في كتابه بأن الولاياتالمتحدة ربما تكون أضخم إمبراطورية عرفتها البشرية من كل النواحي، ومع ذلك فإنها لم تتصرف"كما يجب"أن تتصرف الإمبراطوريات لجهة تحمل المسؤوليات التي تترتب على"الامبراطورية". فسياستها الخارجية، كما هي الداخلية إلى حد ما، لم ترتق الى مستوى"رعاية"مصالح من تسيطر عليهم. والمسؤوليات التي يراها فيرغسون ملازمة شرطاً للإمبراطورية الأميركية، ولكنها فشلت في تحقيقها، تكمن في تبني سياسة هجومية أشد في العالم لجهة فرض ما تريد، وعلى مدى طويل. فهو يرى أن تردد الولاياتالمتحدة في تبني سياسة إمبريالية قوية وذات نفس طويل هو الذي أضر بها. فالولاياتالمتحدة، ونخبتها السياسية وأكثر من ذلك شعبها، يحبذون تدخلات سريعة، قصيرة النفس، قليلة الأكلاف، لكن هذه التدخلات مخالفة لمنطق الأمبراطورية التي لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا عبر تدخلات طويلة الأمد، تفرض من خلالها التغيير الذي تريده في العالم مثلاً خلق نظم ديموقراطية كما يقول حتى لو كانت مكلفة في بداية الأمر. فيرغسون هنا ينطلق من رؤيته المؤيدة والداعمة لفكرة إمكانية وجود"إمبراطورية إمبريالية ليبرالية"تخدم مصالح بقية العالم كما تخدم مصالحها، ويرى في الولاياتالمتحدة إمكانية ان تكون تلك الامبراطورية. فهو لا يؤمن بعملانية"المجتمع الدولي"ولا القانون الدولي في مواجهة التحديات والأخطار الحقيقية التي تواجه أميركا والغرب عموماً. وهو من أكثر المؤرخين المعاصرين صراحة أو ربما وقاحة في الدفاع عن فكرة"الإمبراطورية الإمبريالية". بطبيعة الحال هناك وجهات نظر لا تحصى تقريباً في تحليل"الإمبراطورية الأميركية"تحمل رأياً مغايراً مفاده أن سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية قامت منذ منتصف القرن التاسع عشر على الإمبريالية التوحشية والتوسع، بدءاً بالجوار الأميركي اللاتيني، ثم في بقية أطراف العالم تقريبا من دون استثناء، بهذا الأسلوب أو ذاك. فكتب نعوم تشومسكي وغور فيدال وسمير أمين من ضمن قائمة طويلة من مثقفي ومفكري اليسار العالمي واليسار الليبرالي العالمي مشهورة ومنتشرة، وأطروحاتهم معروفة ومُناقشة في كثير من الدوريات. بيد أن ما تركز عليه هذه المقالة وتبقى فيه خشية الاستطراد بعيداً عن موضوعها هو الجدل داخل المعسكر الأميركي وبخاصة جانبه اليميني والمحافظ. في مقابل المنظرين والمدافعين عن"الأحادية القطبية"هناك من يرى أن العالم متجه نحو صيغة من"التعددية القطبية"تنخفض بحسبها وبسببها، من جهة، مكانة وقوة الولاياتالمتحدة، وترتفع، من جهة أخرى، مكانة وقوة القوى الأخرى كالاتحاد الأوروبي وروسياوالصينوالهندواليابان تحديداً. وبهذا تتقارب تأثيرات ونفوذ هذه القوى، لكن تفقد أية قوة واحدة منها ميزة الانفراد والقيادة على الأخريات. وربما أمكن القول هنا إن هذه هي النظرية الأكثر رواجاً في الوقت الحاضر في فهم وتصوير ما تؤول إليه العلاقات الدولية في المستقبل القصير الأمد. والتركيز الأشد هنا يكون على صعود الصين تحديداً ثم روسياوالهندواليابان مضافاً بالطبع إلى الاتحاد الأوروبي. فالصعود المتواصل لهذه القوى إنما يحدث على حساب قوة وانفراد الولاياتالمتحدة بالهيمنة. وهناك على العموم تنويعات متفاوتة لرؤية التعددية القطبية بعضها يرى هذه القطبية في وارد الحدوث لكن مع الإبقاء على تميز خاص للولايات المتحدة ودورها وقوتها كما يرى مثلاً المنظر الأميركي المعروف جوزيف س. ناي في كتابه"مفارقة القوة الأميركية: لماذا لا تستطيع القوة العظمى الوحيدة في العالم أن تتحكم به وحدها؟". وهناك من يرى تحقق تعددية قطبية تفقد فيها الولاياتالمتحدة أي تميز قيادي خاص بها. وأكثر وجهات النظر شيوعاً وتنظيراً لهذه الفكرة هي تلك التي تقول إن العالم قد دخل قرن"العصر الآسيوي"حيث السيطرة القيادية ستكون للقوى الآسيوية: الصينواليابانوالهند، على حساب القوى الغربية التي دخلت سيطرتها مرحلة الأفول. وربما يمكن القول إن أفضل ما يعبر عن هذه الفكرة ويدافع عنها بشراسة إلى درجة الخروج عن الموضوعية هو الكاتب الآسيوي كيشور محبوباني في كتابه الحديث:"نصف الكرة الأرضية الآسيوي: الانتقال المحتم للقوة العالمية نحو الشرق". ففي هذا الكتاب يجادل محبوباني بأن"العصر الآسيوي"قادم ولا يستطيع الغرب إيقافه. لكنه يتورط في افتراض أن"القوة الآسيوية"قوة موحدة متناغمة على نمط"القوة الغربية"المتناغمة بين الولاياتالمتحدة وأوروبا ويتفادى التوقف ملياً وبإقناع إزاء خلافات الصينوالهند وخلافات الصينواليابان وخلافات الصينوروسيا وكلها خلافات تاريخية من العيار الثقيل الذي يحول دون تبلور كتلة آسيوية متناغمة وموحدة. ومقابل نظريتي استمرار"القطبية الأحادية"و"التعددية القطبية"، هناك تحليل مثير ربما يبدو أكثر إقناعاً يقول به ريتشارد هاس، الأكاديمي النافذ والرئيس التنفيذي لمجلس الشؤون الخارجية في نيويورك، يقول فيه إن عالمنا اليوم يدخل حقبة"اللا قطبية"، أي عدم وجود طبقة"عليا"من الدول الكبرى يمكن النظر إليها باعتبارها"أقطاب"العالم. فهذا المفهوم يشير دوماً وتقليدياً إلى أن القطب أو الأقطاب هي الدول الكبرى تحديداً. فالقرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين شهدا تعددية قطبية القوى الأوروبية، بالإضافة إلى اليابان والدولة العثمانية، ثم بعد الحرب العالمية الثانية شهد العالم ثنائية قطبية الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة، وبعد انتهاء الحرب الباردة شهد العالم"أحادية قطبية"الولاياتالمتحدة. لكنّ ثمة أمرين جديدين تطورا خلال العقود القليلة الماضية. الأول هو نشوء دول إقليمية ذات تأثير كبير، أقل قوة من قائمة الدول الكبرى المعروفة، لكنها تنافسها على مستوى الأقاليم وعلى مستوى بعض القضايا العالمية. ويورد هاس هنا قائمة ببعض الدول الإقليمية المهمة مثل البرازيل والأرجنتين وتشيلي والمكسيك وفنزويلا في أميركا اللاتينية ونيجيريا وجنوب أفريقيا في أفريقيا ومصر وإيران وإسرائيل والسعودية في الشرق الأوسط وباكستان في جنوب آسيا واستراليا وأندونيسيا وجنوب كوريا في شرق آسيا. والأمر الثاني هو بروز لاعبين عالميين ليسوا دولاً وتندرج في هذا التصنيف المنظمات العالمية الاقتصادية وغير الاقتصادية، والروابط شبه السيادية والمنظمات غير الحكومية والهيئات الإقليمية والمؤسسات الإعلامية الكبرى ذات التأثير المعولم. وهكذا فإن خلاصة التداخلات بين المستويات الثلاثة: الدول الكبرى، الدول الإقليمية النافذة، الأطراف غير الدول المعولمة، تنتج عالماً صفته الأساسية"غير القطبية". وبحسب هاس فإن هذا يحمل مخاطر لا يُستهان بها حيث يحتاج النظام إلى فترة مريحة من الزمن حتى يستقر على شكله الجديد، لكن في الوقت نفسه قد يحمل آفاق تعاون وسلام مستقبلي ونمط جديد في العلاقات الدولية. * أكاديمي أردني فلسطيني - جامعة كامبردج