يأتي "جنينة الأسماك" اختياراً موفقاً للمخرج يسري نصرالله. فالجنينة في الفيلم ليست مجرد مكان، بل هي ملمح لعصر ولى، ورمز يكثف رؤية المخرج لنمط من الحياة اتسم بالغموض والكتمان. نمط مختلف عن متطلبات الحياة هذه الأيام. في المشهد الافتتاحي يرسم المخرج ملامح عصر ويوجز فلسفة زمن بأكمله، تظهر الجنينة في لقطة علوية كما مخ الإنسان، متاهة كبيرة زاخرة بالخلايا والتلافيف، تشي بطريقة تفكير قوامها التخفي والتورية. وفي مشهد أقرب ما يكون إلى اللوحة السريالية تتحسس كاميرا سمير بهزان، طريقها بين العتمة والإضاءة عبر كهوف ومغارات الجنينة برفقة أغنية بديعة لأسمهان، تشيع عبق الماضي وتحكي عن لوعة الحب وعذاب الكتمان. ثم تقفز الكاميرا عبر السنين إلى مدينة القاهرة في زماننا الحالي لتعرض جواً عابقاً بالضجيج والزحام والأضواء الخاطفة، حيث تدور أحداث الفيلم، يطرح المخرج موضوع التغيرات التي صبغت طبائع البشر من حال التخفي والكتمان إلى الاحتجاج والإعلان ليختتم الفيلم بقوات الأمن تحتجز جمهوراً من الأهالي يرفع شعار المعارضة كفاية. شخصيات حية فيلم"جنينة الأسماك"عمل ثري بالتفاصيل تمت صياغته بإحساس مرهف في نسق مرن، حين خلف نصرالله وراءه الأنماط والحبكة المصطنعة، ليدعم البناء بمجموعات من الشخصيات المبتكرة. عيّن المخرج ليلى ويوسف هند صبري وعمرو واكد حارسين على بوابة اللاوعي في الفيلم، ووضع بين أياديهما مفاتيحه. ينتمي كل منهما إلى قطاع المتعلمين ما أهلهما لامتهان مهن مرموقة. ويتصادف أن تمتد أصول كل منهما إلى ذات الأصول العريقة التي ينتمي إليها مخرج الفيلم، ما يسر له الإطلاع على دخائلها واقتباس روحها: تقدم الإعلامية الفاتنة ليلى البرنامج الإذاعي"أسرار الليل"والذي يمثل طاقة للتنفيس عن المستمعين، فمن خلاله يفصحون عن أسرارهم ويكشفون خباياهم من دون أدنى خوف، متخفين وراء ستار الميكروفون، بينما يغوي دكتور يوسف طبيب تخدير الإنصات إلى هلوسات المرضى وبخاصة الفتيات اللاتي يلجأن إلى العيادة المشبوهة في جوف زقاق قذر، لرتق العذرية أو تفريغ حمل غير شرعي. على مدار أحداث الفيلم، تبدو ليلى ويوسف ? من واقع رؤية خاصة للمخرج ? معزولين ? كما الأسماك ? خلف حواجز زجاجية، تحتجز ليلى، خلف جدار زجاجي داخل استوديو التسجيلات بالإذاعة، بينما يقيم يوسف إقامة دائمة في سيارته التي نقل إليها كل ملابسه وحاجاته، يسبغ المخرج على بطليه خصائص الأسماك، إذ تذكر الموسوعات العلمية أن الأسماك فاقدة لملكة التذكر وهو ما يعيقها عن إقامة حياة اجتماعية متينة ومستديمة، وفي هذا الإطار يقدم المخرج كلاً من ليلى ويوسف شخصيات معوقة اجتماعياً، فكل منهما لم يتزوج ولم ينجب، مكتفياً بعلاقة موقتة مع صديق أو صديقة وكل منهما مستغرق في مهنته من دون المشاركة. في أي نشاط مجتمعي أو كيان سياسي. وليس بمستغرب ألا يجمع المخرج بطليه في علاقة حب قد تنتهي بالزواج أو الفراق فهو في فيلم"جنينة الأسماك"غير معني بحكايات الحب أو أفلام الإثارة والتشويق، فضلاً عن اتباع موضة الموسم في أفلام تنتقد التجاوزات من قوات الأمن ورجال الأعمال ذلك لأن هذا المخرج المفكر معني في المقام الأول بقضايا جوهرية متعلقة بالحريات وإطلاق الطاقة للتعبير. وفي إطار"جنينة الأسماك"كرمز للعراق على ما يبدو يطرح المخرج امتداداً لها في شخصيتين بمقدار ما تتسمان بالثراء تتميزان أيضاً بالتباين، بدت والدة ليلى منحة البطراوي شخصية متسقة ثقافيا واجتماعياً، حاملة لراية العراقة والرصانة، حافظة للتراث ورافضة للبوح أو الاعتراف. وذلك على النقيض من والد يوسف جميل راتب الذي يرفض الحقن بالمخدر ليخفف آلامه، تخوفاً من فتح بوابة اللاوعي من غير إرادته ? فيكشف عن فجوات في توجهاته وتجاوزات في أدائه. من أعماق الكادر يبدو المخرج في"جنينة الأسماك"كصائد ماهر يستحضر شخصياته من أعماق الكادر عبر ممرات طويلة لتواجه جمهوره وتحدثه عن دواخلها لتكشف عن الازدواجية التي تعانيها، بينما تتمسك السيدة القبطية سماح أنور بالبقاء في البلد نافضة عنها أدنى شعور بالقلق أو الخوف تبعث بأبنائها للتعلم في أميركا. وتحدثنا العشيقة عن نواقص في زيجتها السابقة بينما تواصل علاقة غير مستقرة مع يوسف. ويحضر الممرض من عمله في تلك العيادة المشبوهة، ليبرر استمراره في حاجة أسرته للمال. إضافة لزكي، مهندس الصوت الذي يحب ليلى ويحلم بالارتباط بها على رغم علمه بعلاقتها الخاصة بأحد رجال الأعمال. فن وفكر في إطار مرونة البناء وثراء الشخصيات في الفيلم، يتطرق المخرج إلى مشهدين يظنهما البعض من قصص الأطفال وهما في حقيقة الأمر من صميم القص للكبار ما يحلينا إلى"ألف ليلة وليلة"وپ"كليلة ودمنة". حين تدعو ليلى أولاد صديقتها لحضور عرض للسيرك فتكشف للجمهور طريقة السيطرة على الوحوش بإتباع منهج العصا والجزرة. وفي المشهد الآخر تتلو ليلى قصة حب بين أميرة وعصفور ويصبح تحول العصفور إلى الطبيعة البشرية مرهوناً بإعلان الأميرة لكل الناس أنها تحب عصفور. فيلم"جنينة الأسماك"الذي شارك في كتابته المخرج مع كاتب السيناريو ناصر عبد الرحمن عمل سينمائي حقيقي، عمل مختلف عن السائد، يعرض رؤية خاصة لفنان اتسم بالمرونة، وذلك بلغة سينمائية راقية. العمل يرصد موقف المخرج وأيضاً الشخصيات على تباينها واختلاف الأجيال التي تنتمي إليها، من قضية الحرية والتعبير ليظهر في مشهد النهاية أن البسطاء من أبناء الشعب هم الذين يأخذون موقف الاحتجاج ويرفعون لافتة الرفض. وتبقى جنينة الأسماك ملجأ لمن يألفون العتمة ويخشون مواجهة النور.