اختتم مهرجان تطوان السينمائي الدولي الرابع عشر لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسط فعاليته بفوز الفيلم السوري الطويل"الهوية"لغسان شميط بالجائزة الكبرى لمدينة تطوان. والفيلم الذي شكل فوزه مفاجأة خاصة، يحكي قصة الشاب عهد لعب دوره قيس الشيخ نجيب الذي يغادر الجليل الفلسطيني المحتل مع وفد من المشايخ للتعزية بوفاة شيخ في قرية مجدل السورية في الجولان المحتل. بالطبع تشكل"ذريعة"الذهاب مع الوفد، والمرور المعذب على الحواجز الاسرائيلية لأعضائه مناسبة للبحث في الجانب الآخر من الحكاية، فهناك فواز لعب دوره مجد فضة الشاب العاشق الذي يدفع حياته ثمناً لحبه بعد أن تزف محبوبته قسراً إلى ابن عمها، ما يدفع به الى الانتحار ببندقية صيد، ليبدو وكأن الحكاية تسدل ستارها هنا. لكن الحادثة تؤسس لأحداث من نوع آخر، إذ يحل عهد محل فواز عبر التقمص الذي يجيد أهل المنطقة الحديث عنه، والعيش به ومن خلاله. وهنا يبدو وسيلة خاصة لرواية قصة مؤثرة وحزينة رأى فيها رئيس لجنة التحكيم حسين فهمي إنها"قصة حب كان لها وقع خاص على أعضاء اللجنة ما دفع بهم لمنحه الجائزة باعتباره فيلماً يحكي صمود شعب في أرضه المحتلة". الحديقة من... فوق يمكن القول بالفعل أنها مفاجأة طيبة للفيلم السوري، بعد أن تردد طويلاً في أروقة المهرجان الخلفية ان"جنينة الأسماك"ليسري نصرالله قد يحظى بالجائزة، خصوصاً أن المخرج والممثل الرئيس لهذا الفيلم عمرو واكد كانا حاضرين طوال أيام المهرجان، وهذا بدوره شكل مفاجأة أخرى، إذ خرج الفيلم من دون أية جوائز أو تنويهات. يحكي فيلم"جنينة الأسماك"حكاية طبيب التخدير يوسف لعب الدور عمرو واكد الذي يعمل في المستشفى صباحاً، وفي المساء في عيادة خاصة حيث يقوم بتخدير المرضى والاستماع إلى هلوساتهم، ومنهم قاصرات يلجأن إليه لرتق غشاء البكارة ولعمليات الإجهاض وهم يغيبون في عوالم شبحية مزنرة باعترافات خاصة من كل نوع. وهذا ما يجعل يوسف يعيد على أسماعهم، وأسماعهن، هذه الاعترافات بغية ابتزازهم ودفعهم باتجاه عوالم شبحية أخرى يبدأها هو أصلاً من فوق بالنظر إلى جنينة الأشباح الآدمية المضاءة بطريقة معتمة تتيح للاجئين إليها إمكان الفوز بقبلة عابرة بعيداً من أعين المتلصصين. وهذا ما يفعله يوسف عندما"يدفع"للقائم على الجنينة بغية التلصص على سكانها العابرين. هذه الإضاءة الشبحية تبدو في فيلم نصرالله وكأنها تقرر مصير الفيلم برمته، ومنها تطل ليلى بكر هند صبري في أداء جديد ومختلف، وهي صاحبة برنامج"أسرار الليل"الإذاعي، وفي وسعها من خلاله أن تتعرف الى أسرار مستمعيها من دون أن ترأف بهم وهم يقومون بواجب رواية أسرارهم لها وحدها من دون الافصاح عن أسمائهم، أو باللجوء إلى أسماء مستعارة. وهم يظهرون بذلك وكأنهم يقيمون في الجانب الآخر من رواية يوسف. ففيما يضطر نزلاء العيادة الخاصة إلى التخلي عن الأقنعة التي يتحلون بها تحت تأثير المخدر واللجوء الى الاعترافات من دونها، وهم ربما ليسوا في حاجة إليها بالقدر الذي يبدو عليه يوسف نفسه، فهو إما مضطر للقيام بذلك ليكمل روايته في عوالم مغلقة تبدأ من سكنه وتنقله في سيارته، ولا يقبل بمساكنة عشيقته مروة في شقتها الفاخرة، أو أنه لا يختلف عن مريض منحرف سلوكياً في حاجة للاحتكاك بأسرار الليل التي يقرر أن يكون أسيراً لها وقد تحددت ملامحها من خلال إضاءة ثقيلة معبرة ولكي يكمل على مرأى منا ما يبدو تشظياً في عوالم معقدة يعيش فيها بما يمكن أن نسميه تهتكاً ذكورياً ينسبه لنفسه من دون أن يمتلك القدرة على القيام بفعل إنساني واحد، حتى عندما يشرف على علاج أبيه المصاب بالسرطان جميل راتب، فإنه يفشل في اجراء تدليك واحد له يخفف عنه آلامه، وبالعكس نراه يشجع أباه على استخدام المخدر سلاحه في تثبيت سيطرته على الآخرين، وهو يقوم بحقن نفسه به. وفيما يحاول التحرش بمذيعة"أسرار الليل"تحرشاً بات يتقنه من خلال التنقل بسيارته، يكشف عن صورته الأخرى التي يلهث وهو يبحث عنها في أعماقه اللاواعية، إذ تبدو لنا هنا ليلى بكر شخصية متهتكة وانتهازية، ومتسلطة. وهذا التهتك في صورته الأنثوية أكثر ألغازاً وميلاً نحو الجفاف العاطفي، فهي لا تغادر صورة المرأة القمعية التي تستمد سلطتها من برنامج اذاعي له سطوة على المستمعين الذين يستسلمون لها من دون أن يكونوا مضطرين للتعريف بأنفسهم، وهي بوسعها الانتشاء والرقص في جنينة الأسماك، وعقد صفقات مشبوهة ورخيصة مع المتنفذين أساسها الجنس، وهي تبدو بذلك كأنها تكمل الصورة التي يبدأها يوسف في عيادته، وكأن العيادة والاستوديو يكملان بعضهما وهما يرسمان صورة غير رحيمة لآلية مجتمع يتهاوى ويتفسخ تحت ضربات"كفاية"وتسلل الأصوليين إلى مناحٍ مختلفة في الحياة العامة ومنها السلطة الرابعة وانفلونزا الطيور التي تمهد لأسئلة أخرى... ربما لم تكن هذه الأسئلة أصلاً في ذهن يوسف، ولكنها ترسم ملامح علاقات إنسانية مفقودة أو هي مهددة بالاندثار. والحال العاطفية الوحيدة التي نطل عليها في الفيلم تكمن في الحب الصامت الذي يبديه باسم سمرة لزميلته في الأستوديو ليلى بكر، وان جاء عليها المخرج نصرالله بمشاهد مستمدة من سرديات السينما الصامتة بالأسود والأبيض. وما عدا ذلك، فإن ليلى تظل على تحجرها وملتبسة، وهذا الأمر ينطبق على يوسف، وكأن ما يشدهما إلى بعضهما ليس الصوت وعلاماته، فلقاؤهما في نهاية الفيلم لا يغدو مهماً، لأن سلوكهما يحرر المشاهد من رغبة معرفة اللحظة الحقيقية لتعرفهما الى بعضهما ويقرر أن اللقاء قد حصل بينهما قبل ذلك بكثير. في المقابل سنجد فيلم"القلوب المحترقة"للمخرج المغربي أحمد المعنوني، وفاز بجائزتي الجمهور والتحكيم، يوغل في عوالم دافئة أساسها الغناء والموسيقى الصوفية بغية"تحرير الروح من وطأة الماضي"وهو هنا ثقيل ومنكد للغاية. هذا الإيغال لا يشكل تعريفات درامية بمسميات محددة، فعودة أمين لعب الدور باقتدار هشام بهلول ليواجه ماضيه الأليم في مسقط رأسه"فاس"بعد طول غياب، لا تعني إنه قادر على التعرف الى الأمكنة التي عاش فيها وزرع ذكرياته في جنباتها. بل أنه يفشل في التواصل مع حبيبته حورية، وكأن التعريف الأساسي بالفيلم لا يعود هو العودة من أجل الصفح عن خاله الذي يحتضر على فراش الموت، بقدر ما يؤكد الفشل في اقامة علاقة عاطفية تكمن في المستقبل، وليس الماضي هو هنا المهم، فأمين الذي عانى من خلاله كثيراً وهو طفل بعد فقد أبويه يبدو هنا"مستمتعاً"بفشله في فيلم يريد إن يقول كل شيء ولا يقول شيئاً في المقابل عنه، لأننا لا يمكننا أن ننتظر اعترافات. فهو لا يقوم بسرد اعترافات بقدر ما يريد أن يقول أن فشله بالتواصل مع حبيبته ومع المكان هو شغف يميزه عن الآخرين ولا علاقة لخاله المحتضر به. وهنا تتداخل الأشياء ببعضها حتى يصبح تفسيرها محالاً، لأن الأشياء توجد بداخله هو، وهو الوحيد القادر على اعطاء معنى جديد لحياته إن أراد ذلك، ولكن الماضي الذي يرخي بظلاله على حياته يمنعه من ذلك، ويفرض عليه استمرارية في محاكاته، حتى وان غدا الأمر غير ذلك. فالفيلم صور بالكامل بالأسود والأبيض، باستثناء لحظة المكاشفة بين الشيخ وأمين التي يجب أن يتبعها الصفح في لحظة التعرف الى الذات. وهذه الفرصة الملونة إن جاز التعبير تجيء لإظهار القدرة على تلوين المشاعر وهي تنشئ الصفح، وكأن ما تنجح فيه الصورة يفشل فيه أمين الذي"يستمتع"بالحبس في متاهة صنعها بيده، ولم يقو على طرح أسئلة من خلالها على رغم كل الإشارات التي تدفع إلى ذلك، ومنها إحراق صور خاله لتصبح أثراً بعد عين. حضور مغربي قوي فيلم"القلوب المحترقة"يشكل حضوراً قوياً للسينما المغريبة، إضافة لفيلم"عود الورد"للحسن زينون الذي شارك في المسابقة الرسمية. وهناك فيلم الافتتاح"في انتظار بازوليني"لداود أولاد السيد، وكان قد حاز جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة الأخير. الفيلم يصنع من المخرج الإيطالي الراحل بازوليني نفسه أسطورة مؤثرة في نفوس الناس الطيبين البسطاء الذين ينتظرون عودته بفارغ الصبر ليصور فيلماً في استوديوات ورزازات، ربما بهدف تغيير الصورة قليلاً التي أخذت تغرق تدريجاً في تصوير أفلام تجارية ضخمة على رغم أن طبيعة وجودها تمنح الأمل لسكان هذه المنطقة الذين يعتاشون من العمل فيها. مخرج"أوديب ملكاً"ان جاء إلى قريتهم فسيغير من الصورة وسيمنحها أبعاداً إنسانية مفقودة. تستقبل القرية فريق تصوير إيطالياً يجهز لتصوير فيلم مستلهم من الكتاب المقدس، وها هنا تبدأ الاستعدادات بين أهل القرية وهم ينتظمون في مجاميع بعد أن سرى إلى مسامعهم من طريق خبير بتركيب وإصلاح الصحون اللاقطة بأن المخرج الإيطالي بازوليني سيكون على رأس هذا الفريق السينمائي، وعلى رغم معرفة الخبير بوفاة بازوليني إلا أنه لم يمنع نفسه من الحلم في إمكان ملاقاته ثانية لأن الناس ينتظرون الأمل الذي سيحمله بازوليني، وهو الحلم الذي يعقد عليه داود أولاد السيد كما يبدو الآمال الكبرى، لأن السينما نفسها اندفعت باتجاهات مغايرة للأنساق الجمالية والإنسانية التي أرادها السيد ومن قبله بازوليني نفسه بوقت كبير. ربما تبدو الصورة عنده هكذا، ولكن مدير المهرجان أحمد الحسني يقول في جانب آخر إن"انتظار محمد هنيدي لتكريمه وتكريم السينما التونسية في الوقت نفسه انما هو مناسبة لتلبية كل الأذواق، فمهرجان تطوان هو مناسبة للفرجة وللثقافة". ربما تكون الأمور هكذا، فليس معقولاً أن الناس في وقتنا الراهن ينتظرون بازوليني فقط... هناك من ينتظر هنيدي أيضاً، وهذا قد يغدو صحيحاً إلى حد ما، لأن السينما لم تكن يوماً مطلباً جمالياً صرفاً، فهي شباك تذاكر أيضاً!