ماتت جدتي بعد صلاة العصر مباشرة. سمعت الأذان من جامع البلدة القريب، ثم صوت سائل واصلاً إليها من ناحية سور الجنينة المطلة على الطريق، وهو ينادي بصوت كسير:"حسنة لله يا مؤمنين". جرت إلى المطبخ، وأحضرت له رغيف عيش وسمكة بلطية مقلية من بواقي أكل الغداء، فلما خرجت إلى الشارع مجتازة بوابة البيت الحديد كي تعطيه ما سأل عنه، وجدت عجوزاً يرتدي البياض، يسارع الخطى مبتعداً من دون أن يلتفت لها، على رغم ندائها المتكرر له، وسعيها الحثيث وراءه بسبب الروماتيزم ووجع المفاصل، ثم ما لبث أن اختفى وغاب عند مفترق الطريق، وكأن الأرض انشقت وابتعلته. وقفت مبهوتة قليلاً، وهي تستعيذ بالله، ثم انسحبت داخلة إلى البيت مرة أخرى لتحكي لأمي ما حدث لها، وبعد ذلك توضأت وصلت، وبمجرد أن أنهت الركعة الرابعة من صلاتها، طلبها ملاك الموت وهي تسلم تسليماً، فقبض روحها، ولتجدها أمي بعد ذلك وهي محطوطة من دون حراك على السجادة. أخذتني أمي إلى غرفة سِتي البحرية المطلة على الفناء الخلفي للبيت، تاركة الأقرباء والجيران الذين تجمعوا بمجرد علمهم بخبر الوفاة. كانت جدتي مسجاة على سريرها النحاسي القديم ذي العمدان الأربعة، ومغطاة بملاءة بيضاء سميكة رسمت على جوانبها ملائكة مجنحة بخيوط متداخلة مع نسيج الملاءة. كان رأسها مستريحاً على وسادتها المعمولة من ريش الأوز، وهي الوسادة التي طالما وضعت رأسي عليها أنا كذلك، عندما كنت أنام إلى جانبها في بعض الليالي، وبدت ضفيرتها الفضية الطويلة، منسابة بإهمال على مقربة من رغيف خبز، وحفنة ملح في طبق صيني صغير، وسكين صغير بقبضة من سن الفيل، أما على الكومودينو الخشبي الداكن، والمحفور عليه وردات وعناقيد عنب، فاستقرت شمعة صغيرة شحيحة النور، أخذت تسح دموعها بحماس على صفحة نحاسية صغيرة ثبتت فوقها. لجم المشهد أوصالي قليلاًَ، فلم أقو على الكلام، لكني امتثلت لأمر أمي التي عاودت البكاء منذ دخولنا الحجرة، وانحنيت على الفراش لألامس بشفتي جبين سِتي، ولأفر بعد ذلك هاربة إلى الخارج، إذ خُيّل إلي أن سِتي انفترت شفتاها عن ابتسامة خفيفة، وكنت أتمتم بالفاتحة مثلما كانت تتمتم أمي. بعد دفن جدتي بأيام، كنا نلعب في الجنينة تحت شجرة وارفة من أشجار الجوافة، أنا وأولاد خالي وعيال الجيران، كنت متحمسة للعب كثيراً، فذهبت إلى المطبخ، حيث كانت أمي واقفة أمام الموقد تغلي اللبن، رحت أفتش في أدراج النملية الخشبية الكبيرة عن شمعة وكبريت، تنبهت أمي فتساءلت: - عاوزة أي حاجة من الدرج؟ - آه. عاوزة شمعة وكبريت. ردت بعصبية: - إياكم تلعبوا بالكبريت أو تشطوا ناراً. رجوتها أن تسمح لنا بإيقاد شمعة واحدة فقط، وأن تتكرم فتجود علينا بحفنة ملح ورغيف، وكذلك السكين الصغير باليد العاجية، ثم أعلنت لها بوضوح: - ناويين نلعب ميّت. - ميّت؟ لا حول ولا قوة إلا بالله. - ردت وهي تبتسم. آه. عاطف ابن خالتي أم خليل جارتنا، اتمطرق على الأرض تحت شجرة الجوافة الكبيرة، وفاتن وحسن وفردوس أولاد خالي، قاعدين يلطموا ويصوتوا عليه. غضبت أمي، ونهرتني عن هذه اللعبة، وبدأت تبرطم وتشتم فوقفت أنظر إليها بدهشة من دون أن أدرك سبباً لغضبها، تركتها تتابع غليان اللبن وجريت إلى حيث شجرة الجوافة، لكني عدت بعد قليل لأسألها: - يعني لازم نحط ملحاً وسكيناً ورغيفاً وشمعة لعاطف، واللا نتركه يموت وخلاص؟ ابتسمت وهي تتأملني، لكن يبدو أن سؤالي أربكها قليلاً، فضلت صامتة فترة قبل أن تجيب: - خلوها عادي، من دون أي شيء، لأنه لعب في لعب. سكتُ أنا أيضاً وكنت أفكر ثم قلت: - ولما يموت بحق وحقيق، نعمل له كما عملت أنت لستي حفيظة و..... زفرت وقاطعتني بسرعة: - بعد الشر عنه وعنكم كلكم. ثم ناولتني فجأة طبقاً صغيراً من الصاج القديم وقالت أن آخذه لنلعب به كما نشاء، لكني لم أذهب وسألتها: - طيب قولي لي السبب في أن الميت لازم يكون عند دماغه سكينة وملح وعيش وشمعة؟ بدت أمي متضايقة من سؤالي، ربما لأنها لم تجد إجابة معقولة عنه، هزت كتفيها، ورسمت علامة قرف بشفتيها ثم قالت: - عادة قديمة وسلو بلدنا، ونينة حفيظة، حلفتني قبل موتها أن أحط لها الملح والعيش والسكين والشمعة، وطلبت مني ربط ضفيرتها عقدة، يظهر أنها عادة قديمة، هل لاحظت أن ضفيرتها كانت معقودة لما دخلت عليها وهي ميتة؟ كنت متلهفة على اللعب ولا أرغب بمزيد من الحوار، أو استرجاع مشهد جدتي المتوفاة مرة أخرى، فجريت لألعب مع العيال، وجرت بعد ذلك الأيام، لأكبر وأدخل كلية الآثار، وأعرف من كتب التاريخ القديم، أن أوزوريس ومنذ آلاف السنين ذهب إلى رحلته الأبدية وحمل معه خبزاً وإداماً ليقتات به وشمعة لتنير له طريق الظلمات، وخنجراً يواجه به الأعداء يوم البعث.