زيارة الى البحر الميت القسم الثاني الأخير - 1 - - ما هذا الشيء الذي يبدو كأنه يَخيطُ شفتي البحر الميت؟ - يبدو كذلك أنه يخيطُ شفاهَ العرب، جميعاً. - أهُوَ آتٍ من أنّ الأرض التي ينامُ بين أحضانها، وُلدِت قبل الجُلْجلة، وقبل قبّة الصخرة، وقبل أن يصعد موسى الى حيث كلّمه الله؟ - لكن، أليس خيراً لك أن تسبحَ في البحر الميت نفسه، من أن تسبح في هذا الشيء؟ - 2 - - كلّ سنةٍ، يُلقَّح جسم البحر الميت بمطرٍ مزيجٍ يتساقط من غيوم النبوّات التي تُهيمن عليه، غير أنه يظلُّ كما هو، ويقال إن الأسباب التي تدعو الى تلقيحه، تزداد تعقداً. - أهناك، إذاً، تلقيحٌ يمكن وصفه بأنه لا يُجدي؟ - 3 - - في حقول السماء كواكبُ صغيرةٌ تتجوّل كمثل طيورٍ مهاجرة تتجوّل في حقول الأرض. - 4 - - انظرْ الى السماء كيف تُلصقُ وجهها على وجه البحر الميت: أهي تجربةٌ أخرى في التنبؤ، وفي صُنع الأزمنة الآتية؟ - 5 - - لكن، من أين يبدأ تحريرُ الإنسان، من السماء أم من الأرض؟ - علينا، هنا، أن نسأل فرويد وعلم النّفس، خصوصاً أن تحرير الجسم البشريّ يبدأ من أسفل، من الغريزة وتُربتها العُضوية. - في كل حال لن أنضوي تحت لواء تلك القُدرة التي تُعطل عند الإنسان طبيعته الحرة، وتُطفئ لهب المخيِّلة والإرادة. - 6 - نسير، حيدر وإيمان وأنا، حول البحر الميت، كأننا نتنقل في طبقات التاريخ، مع زعماء القبائل من كل نوع، نسيرُ، لا رُوّاد فضاء، ولا باحثين عن ثروة، نسير في خرائب النبوّات. تجرّأت أن أسأل السماء فوقنا ? لكن همساً: - لماذا أغلقتِ أبوابك، وأنتِ في أوج الطفولة؟ أليس عندكِ بابٌ آخر لكلامٍ آخر؟ غير أن السماء كانت تبدو في قُعر الطريق، على ضفاف البحر الميت، بين التلال المحيطة المشرفة، كأنها قبرٌ مفتوحٌ الى ما لا نهاية. وكنت تجرأت وسألت الكنيسة القديمة، القائمة على أنقاض هيكل أكثر قِدماً، في جبلِ نيبو: لماذا لا تزالين تتجاهلين أن بعض الكلام يموت هو كذلك؟ أن العقل الذي قاله قد يُصبح فُرناً، أو سيفاً؟ أنّ في الأرض حِبراً خاصاً لكتابة الريح، وأخطاء التاريخ ولغاته؟ وتمتمتُ في أذن الكنيسة: ها هي النار تَصِلُ إليك. وسوف ترين العصر يرتسم كأنه أخٌ للحذاء المشرّد، الوحيد، الذي رسمه بجوعه وعذابه، ذلك المشرد الوحيد الكبير: فان غوغ، - حيث تُجَرّ الأيام الى مُستقرّها بحبالٍ سوداء، حيث يُرى بشرٌ يضربون الماء بعصيّهم لكي يتحوّلَ الى بساطٍ يفترشونه في طريقهم الى ما قُدِّرَ لهم، وبشرٌ آخرون يموتون من أجل سكّين. وسمعت صديقيَّ يتحاوران: - كلّ شيءٍ يؤكد أن الدماغ هو العبد، وأنّ اليد هي الأميرة. أن الروح، لا المادة، هي التي تخونُ البيت الذي تقيمُ فيه. حيناً تطرد أبناءها، وحيناً تقتلهم. - كل شيء يؤكد أن الكاتب آخذٌ في أن يصير هو نفسه ورقاً. - 7 - كُنا، قبل وصولنا الى البحر الميت، رأينا جماعة سائحة تزور مثلنا جبل نيبو. وسمعنا بعضهم ينفخون في الصور، مديرين وجوههم صوب القدس، تيمناً بالنفخ القديم. كانت التلال تتموّج في موسيقى تبدو كأنها ضبابٌ شفّاف. في الضباب، كانت تتموّج أطيافٌ، على أكتافها أجنحة وأعلام. تلالٌ ليس في حجارتها غير الملائكة، ملائكةٌ ليست في وجوهها غير النار. إنه القديم الذي يتجدّد. لا الشجر، وحده، هو الذي يُقتلع من جذوره، بل الإنسان كذلك. الجذور نفسها ينقض بعضها بعضاً. إنه القديم الجديد. - 8 - آخذُ ورقة بيضاء. أكتب لا أكتبُ إلا ظلالاً أو بُقعاً نُسمّيها الكلمات. في كل كلمة غبارٌ يتفتّتُ من درجة في سُلّم الهبوط الى جحيم المصير. الى أين تمضي هذه الكلمات؟ لا مدينة غير القتل. ولا ألمح على ضفاف الأيام وفي مُتونها غير الطحالب التي تكسوها شظايا التقدم نحو الأسفل، ويرويها دم الصعود نحو الأعلى. هنا، كل شيء يقول: الأرض منسوخةٌ. هنا، كل شيءٍ يقول: لا يقدر الزمن أن يسير إلا بين الأنقاض والخرائب. غير أنه لا يتوقف عن كتابة الرسائل وما من جواب. هنا، يتأكد أن الكرمة تُصغي، وأن الخمرة هي التي تقرأ. انها أجمل قراءة طبيعية لما وراء الطبيعة. انها، وحدها، تعرف عدد الحروف التي تتكوّن منها أسماء الأشياء، تلك التي لم تتكوّن بعد. هنا، ليس للخبز إلا سؤالان: ماذا يفعل عطشانٌ عطشه هو الله نفسه؟ ما تكونُ الوردة إن لم تكن سُرّة امرأةٍ عاشقة؟ هنا، في كل دولاب إنسانٌ يَعرُج. - 9 - ربما، تمويهاً لهذا الدولاب وبحثاً عن تلك السُّرِة، وعمّا يجري في مجراها، كنا، حيدر وإيمان وأنا، نحبّ أن نتردّد على مقهى جفرا، في قلب عمّان القديمة، حيث يتاح للذاكرة أن تمتطي أحصنتها وتنطلق في مَلعب المخيّلة. تدخل الى المقهى، كأنّك تدخل الى هيكلٍ قديم. أعمدةٌ خشبية تختلط فيها الأزمنة. طاولات من خشب عتيق مصنّع بخشونة بدوية. الإتقانُ هنا يكمن خصوصاً في هذه الخشونة. كراسٍ، مقاعدُ، وسائدُ، مدافئ ? كلها تنحدر من رحم أمٍّ هي الطبيعة البسيطة العارية. قناديل صغيرة تتدلى من السقف بأشكالٍ متنوعة، أسطوانية، غالباً. بعضها مُثقَّبٌ: عيونٌ تتلألأ كأنها طالعة من أغوارٍ نائية. بساطٌ بدويّ وحيدٌ يتلألأ فيه عملُ أَيْدٍ ترسمُ البداوة في نسيجٍ تقدر أن تُصغيَ إليه كأنه آهةٌ عالية. في أقصى المقهى، الى يسار مدخله، رفوفٌ من الكتب جاهزةٌ لكي تستقبلَ أصدقاءها القُرّاء. عُشّاقٌ في المقهى. وجهان أمامي كمثل هلالين مُدورّين تحيط بهما غَيمتان ? حجابان. صوت فيروز. شكراً، سلوى البرغوثي. شكراً، عزيز المشايخ. - 10 - ليلٌ أحمر يفتح خاصرته لرأس البحر الميت. لونه لونُ كبشٍ مذبوحِ: القَرنان ملاكان، والجسم تابوتٌ مليءٌ بالسلاسل. أكيدٌ أن السماء هنا لن تجيب الأرض التي تسألها: ماذا سيحدث غداً؟ ذلك أن الحياة هنا، حرباً وسلماً، لغةٌ في الواحد الأحد. خصوصاً أن الإنسان، في حضن هذه اللغة نفسها، خلق بالكلام، من الكلام، وفي سريرٍ من الكلام. - 11 - ملح، لحم، حلم: ثلاثة حروفٍ، ثلاث كلماتٍ تتردد في السمع، أمام البصر، على ضفاف البحر الميت: كلٌّ منها كابوسٌ يقيم في قلب كلٍّ منها. - 12 - ظلامٌ في أوج الشمس: تشعر، فيما ترى، أنّك لا ترى. - 13 - لا يقدر ماءُ هذا البحر الميت أن يبلّل حتى قدَمي الهواء الذي يسير بطيئاً فوقه. إنه الحيّ الميت، الميّت الحيّ. وما من قوة تستطيع أن تنقذه من موته. الموت نفسه هو حياته نفسها. الآن، في هذه اللحظة، أتخيّل أرجاءَه فيما تنزل الشمس على درج الملح نحو الغروب، وأقول في ذات نفسي: يا لهذا الموت المشترك! ثم تستسلم مخيّلتي لغبطةٍ عالية: رؤية السماء طافيةً على وجه الموت. - 14 - الرغبة أحياناً تغذّي أكثر مما يفعل الخبز، لكن، من أنا، أيّها الزّبد، لكي أهيمنَ على وجه البحر؟