في كل مرّة تحيي فيها فرقة "شحادين يا بلدنا" التي أسّسها الفنان العشريني زياد سحاب في العام 2001 مع مجموعة من أصدقائه الموسيقيين الموهوبين، حفلة، يتنفّس اللبنانيون ممن يحملون همّ الإبداع الموسيقي، الصعداء. في كل مرّة تقدمّ الفرقة مقطوعات موسيقية وأغنيات جديدة، يكبر معها جمهور هؤلاء الشباب الذين لا يزالون ينهلون من المعرفة على مقاعد الدراسة في الجامعات، باستثناء عازف الكمان الأربعيني المحترف المفعم بالإحساس أحمد شبو. حفلة مساء أول من أمس، التي نظّمتها شركة"فوروورد ميوزك"على مسرح"بابل"في شارع الحمرا، أكدت أن جمهور سحاب تعدّى دائرة الموسيقيين والمتخصّصين والأصدقاء، ومن يتعرّفون إليه في أحد مطاعم بيروت حيث يعزف كل ليلة جمعة، فتنشأ بينه وبينهم مودّة خاصة أو صداقة. المسرح الذي يتّسع لثلاثمئة شخص، غصّ بجمهور متنوّع من كبار السنّ وصغاره، ومن هواة لأنواع موسيقية مختلفة، ما جعل البعض يتمنّون على الموظفة المسؤولة عن بطاقات الدخول، إدخالهم لمتابعة الحفلة ولو وقوفاً أو قرفصة على درج المسرح. المشهد يثير في النفس غبطة لاهتمام الشباب بالموسيقى الشرقية وبمؤلفين وعازفين يناضلون إذا صحّ التعبير لتقديم أعمال فنية ذات قيمة وإبداع، وسط فيض من الإنتاجات المبتذلة والرخيصة والجماهير المنعزلة في"مستنقع"فنون التلفزيون. لكن من يسعى لتطوير موهبته وإظهارها والتعبير عن رأيه بشكل فني ملتزم كهذه الفرقة، يضع هذه العوائق وراء ظهره. وما قدّمته الفرقة من منتج موسيقي في 14 أغنية، يستحقّ الوقوف عنده. فإضافة الى"كلام الليل كده"صلاح جاهين، و"كده"جمال بخيت، و"فنان فقير"فؤاد حداد، قدّمت الفرقة 7 أغنيات من كلمات الشاعر المصري الشاب محمد خير، و3 أغنيات من كلمات زياد سحاب، وكلها من تلحين سحاب نفسه. كما قدّمت الفرقة أغنية"شو بدك بالحكي"من كلمات الموسيقي الشاب ريان الهبر وتلحينه، بصوت المطرب إيلي رزق الله. لكن علاقة الصداقة التي تجمع محمد خير بسحاب والتي تمخّض عنها أغنيات مصرية ? لبنانية تحمل في طياتها نفس الشباب العربي وهمومه الاجتماعية والسياسية والعاطفية، كان لها نكهة خاصة في الحفلة. فأغنياتهما بالعامية المصرية واللبنانية، اليسارية الهوى، التي أداها بطريقة منفردة كل من ياسمين فايد وهالة المصري وسحاب، أكدت نضوج التجربة التي بدأت منذ حوالى 5 سنوات من طريق صديقة مشتركة هي الصحافية رنا حايك. وقد يجوز الشكر لحايك على هذه الوساطة التي أنتجت أغاني تذكّر الى حدّ ما بتجربة الموسيقي المصري الراحل الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم. وكانت التجربة المصرية الخالصة، أفرزت أغنيات شعبية مثل"أنا توب عن حبك أنا"و"شرّفت يا نيكسون باشا"، ذاع صيتها وانتشرت في مختلف البلدان العربية كالنار في الهشيم، والتف حولها المثقفون والصحافيون. وكان لهذا الانتاج الثنائي أثر كبير في نفوس العرب، خصوصاً بعد هزيمة حرب حزيران يونيو 1967، حيث تحوّلت النغمة من الانهزام الى الصحوة. ولعل النفس المصري الذي يظهر في موسيقى سحاب الشرقية بإيقاع وتوزيع غربيين، يُعطي تجربة الشابين نفحة حديثة ومرنة تُغني أذن مستمع في القرن الواحد والعشرين، من دون أن تفقدها عبق التراث. وهذا ما يميّز إنتاج الثنائي الجديد عن القديم والذي استحوذ تصفيق الجمهور، في شكل لافت. ويبقى أن نشير الى أن ما قُدّم في الحفلة أظهر تطوّراً في سير سحاب الموسيقي، خصوصاً لجهة التقاسيم في بعض المقطوعات التي تركت هامشاً من الارتجال الذي كان واسعاً أحياناً وضيّقاً أحياناً أخرى. أما الموسيقيون إضافة الى سحاب، فهم أحمد الخطيب رق، سلمان بعلبكي كونغا، سامر زغير درامز كهربائي، بشار فران بايس كهربائي، غسان سحاب قانون، أحمد شبو كمان، وريان الهبر بيانو. والحفلة سُجّلت لتصدر في أسطوانة خاصة من إنتاج شركة"فوروورد ميوزك"على طريقة"Multi- track"، ما يضمن نوعية الصوت في مثل هذه التسجيلات المباشرة. وهي تجربة أراد سحاب خوضها هذه المرّة"لما للعزف على المسرح من إيجابيات، منها المزاج الخاص والمميّز الذي تفرضه الخشبة، وحرية العازف والمغني وعدم التقيّد بنظام استوديو التسجيل، والتفاعل مع الجمهور الذي يسمح له بالارتجال مثلاً أو تأدية مقطوعاته بحماسة إضافية تزيدها حماسة الجمهور"، كما يقول. وهي تجربة يمكن أن يعتمدها سحاب في تسجيل أسطواناته لاحقاً، ويمكن ألا يُكرّرها، بحسب ما أكد قبل بدء الحفلة. لكن على الأرجح، أنه سيُكرّرها مراراً بعد هذه السهرة التاريخية في مشوار سحاب وزملائه الفني، كونها من أفضل الحفلات التي أحياها وفرقة"شحادين يا بلدنا"، على رغم ندرتها.