كل عربي "جديد" يريد أن يتعلم السياسة، لا بد أن يكون الدرس الأول له هو : الصراع العربي - الإسرائيلي، وقد يتطلب منه هذا فصلاً دراسياً كاملاً وليس درساً أول فقط، ثم تلي الدروس الأخرى: العراق - لبنان - الجزائر - السودان - اليمن، ولا تخلو أي دولة عربية من دروس متقطعة، تنزل في البرنامج الدراسي/ السياسي للطالب العربي حسب ظروف المنطقة واحتياجات الطلاب لدروس خصوصية! سيكون من ضمن الدروس الأساسية بالطبع مادة عن"مصطلحات الهزيمة"، يتعلم فيها الطالب معاني النكبة والنكسة والعدوان وحرب الاستنزاف والاتفاق والمعاهدة وغيرها. وقد مرت في الأيام الماضية الذكرى الستون لإنشاء دولة إسرائيل، احتفل نصف العالم"المنتصر"بقيام دولة الوعد.. في حين أحيا نصف العالم"المهزوم"ذكرى قيام دولة الوعيد! قبل ستين عاماً كان الدرس الأول: النكبة. نشأ جيل عربي كامل منذ 1948 يمكن تسميته جيل النكبة، لم يبرأ من الهزيمة الداخلية التي صبغت سلوكه السياسي والثقافي والاجتماعي بأعراض النكبة، التي فيما كان يؤمل أن تخف مع الوقت، فإذا بالجيل العربي التالي يصاب بنكسة 1967! بين النكبة والنكسة كانت محاولات طفيفة للاستطباب، لكن بعد النكسة تفاقمت حمى الهزيمة على الجسد العربي المريض، ولذا كان لا بد أخيراً من اللجوء إلى المهدئات والحلول الجزئية والمؤقتة، التي لا تزيل"المرض"لكنها تخفف أعراضه. كانت مفاوضات السلام العربي - الإسرائيلي هي"العلاج الكيماوي"الذي سيزيل بعض الخلايا السرطانية، لكنه بالطبع سيغير ملامح الجسد... اللون... الشعر... والرونق، في الوقت ذاته الذي قد لا ينجح في منع الخلايا السرطانية الأخرى الحية من الفتك بالجسد المنهك. لا بأس... إذ لا خيار! لكن"السلام"نفسه لم يكن أقل وجعاً على الفلسطينيين والعرب من الهزيمة. لم يكن السلام سلاماً لأن"المفاوضات قد بنيت على سلسلة من الأخطاء، لا يمكن إنقاذ المفاوضات إلا بإزالتها. والأخطاء التي فرضها الأقوياء وقبلها الضعفاء، فرضتها الولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل، وقبلها الفلسطينيون والعرب وحتى الأوروبيون. ويمكن لسياسة الفرض أن تقود إلى طاولة المفاوضات، لكنها لا يمكن أن تنتج حلولاً واتفاقات، وإذا حدث وانتجت حلولاً واتفاقات مفروضة بدورها، فإنها لا تنتج سلاماً، وإنما يهيئ السلام المغشوش لحروب أشد ضراوة". بلال الحسن:"قراءات في المشهد الفلسطيني"- 2008. مرت على مفاوضات السلام الثنائية والمتعددة بين العرب وإسرائيل سنوات طويلة، وتعاقبت عليها حكومات أميركية متفاوتة جمهوريون - ديموقراطيون - محافظون جدد، وحكومات إسرائيلية متنوعة الليكود - العمل - كاديما، ومسميات جذابة لمدن ومنتجعات ومزارع تقام فيها جولات السلام/ الحربي! إذاً مرّ طلاب السياسة العرب بثلاثة دروس اصطلاحية: النكبة... بقيام إسرائيل، والنكسة... باحتلال القدس، والنكثة... بوعود السلام الموعود. تفاوتت تأثيرات هذه الدروس"الليلية"الكئيبة على حال النفس العربية، فإذا كانت النكبة قد مهدت لقدوم الشعور بالقلق إلى الثقافة العربية سمير قصير:"تأملات في شقاء العرب"، فإن النكسة قد أورثت الإحباط من إمكانية استعادة التوازن العسكري بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية، كما أن النكثة بوعود السلام التي أعلنها رعاة السلام الكبار قد أورثت أجيال الهزيمة الجديدة الارتكاس إلى الحلول الدموية بالعمليات الانتحارية التي يسميها المنتصر إرهاباً ويسميها المهزوم جهاداً، وهو درس اختياري في مصطلحات السياسة العربية المعاصر... لمن يريد أن يتعلم"الجهل"! بعد النكبة والنكسة والنكثة، بدأت تظهر الآن في العلن مظاهر المرحلة الرابعة واسمها النكتة! إذ بدأت حكومات ومجتمعات غربية تعلن أمام الملأ سأمها من دعم إسرائيل اللامتناهي ومعاملتها الفاخرة والحنونة من بين دول العالم. أظهر استطلاع أجراه معهد"فورزا"الألماني لمناسبة مرور 60 عاماً على إنشاء إسرائيل أن ثلثي الألمان أصبحوا يريدون النظر إلى إسرائيل نظرة عادية وعدم منحها دوراً خاصاً في السياسة الخارجية الألمانية. وكان 25 أستاذاً جامعياً ألمانياً قد أصدروا بياناً رسمياً جاء فيه أن ألمانيا قد دفعت دينها للمحرقة الهولوكوست كاملاً، وأن ألمانيا يجب أن تتوقف عن إعطاء إسرائيل معاملة خاصة وأن تتخلص من التعويضات الملزمة ومن الشعور بالذنب. وفي صحيفة"ذي اندبندنت"البريطانية نشرت مؤخراً مقالة بارزة وملفتة تحت عنوان: هل يتعين علينا النظر إلى إسرائيل على أنها دولة تربطنا بها صداقة خاصة؟! إذا تعددت وتضافرت هذه المشاعر الإنسحابية وأصبح حاملوها من ذوي النفوذ في الغرب فستحل علينا"النكتة"، وهي أن إسرائيل لن تسقط بالجيوش العربية ولا بالمفاوضات التنازلية، بل ستسقط إسرائيل بسبب تخلي الغرب أخيراً عنها وتركها وحيدة في العراء العربي، ولن ينفعها هيكل سليمان المزعوم منذ القدم ولا هدهد سليمان المنتخب منذ أسبوع ولا خاتم سليمان الذي ابتلعه أولمرت! من النكبة إلى النكسة إلى النكثة إلى النكتة، ينشأ ناشئ الفتيان فينا على قاموس السياسة العربية. * كاتب سعودي [email protected]