إحدى مآثر التاريخ أنه لا يتوقف، خصوصاً في حالتنا العربية، وإلا لما تحركت مجتمعاتنا شبراً واحداً عطفاً على ما شهدته من انكسارات وهزائم طيلة تاريخها الحديث. وإذا كان البعض ممن توشحوا برداء القومية العربية، نسكاً ومنهجاً، تمنى لو أن التاريخ قد توقف عند الرابع من حزيران يونيو 1967، كي لا يروا يوماً تنهار فيه وشائج إيديولوجيتهم الفوقية التي ظلت محراباً لتطلعاتهم وطموحاتهم، فإن من عاش منهم حتى اللحظة الراهنة، تمنى لو أن التاريخ توقف يوم السادس من حزيران حتى لا يرى ما حملته السنون اللاحقة من تتابع في الهزائم والنكسات. وبطريقة"الفلاش باك"أو باستعادة التاريخ القريب، تصبح هزيمة أو نكسة حزيران مجرد حدث عابر، أو بالأحرى مجرد شرخ صغير جرّ خلفه"شقوقاً"كثيرة في بنية النظام العربي، الذي أوشك على السقوط بفعل ما تعرض له من نكسات وانكسارات على مدار الأربعين عاماً الماضية. ربما كانت هزيمة حزيران نكسة حقيقية بالمعنى العسكري والجيوبولوتيكي، الذي أمكن تفادي بعضاً من تبعاته لاحقاً عبر تصحيح موازين القوة العسكرية، جسده انتصار تشرين الأول أكتوبر 1973، إلا أن ما لحقها من نكسات، وإن لم تكن هزائم عسكرية، كانت أشد وطأة وتأثيراً على المجتمعات العربية خصوصاً من الناحيتين السياسية والثقافية ? الهوياتية. فقد انفرط العقد الاجتماعي بين الدولة العربية ومجتمعها، واندثرت معه رابطة الانصياع"الطوعي"لأنظمة ما بعد"الاستقلال"وما تلاها، في حين وقفت هذه الأخيرة عارية تماماً من أي دور"طليعي"يمكن أن يقود الشعوب نحو طموحاتها، وبما يبرر سياسات الاستبداد والقمع التي لا يزال بعضاً منها يمارسها حتى الآن. وكانت النتيجة الكارثية دخول المجتمعات العربية في طور"استيلاد"ثقافي واجتماعي أنتج حركات وتيارات أصولية، باتت المهيمن الرئيسي على مخرجات السياسة العربية حتى وقتنا هذا. وماذا يمكن أن يقال عن الاحتلال العراقي للكويت عام 1990، مقارنة بنكسة 1967؟ ألا يعد أشد نكسة وانكساراً؟ فعلى الأقل في الخامس من حزيران كان المعتدي"عدوا"معروفا، ما فتىء يخطط لخطف أراضي الغير، باعتبارها وسيلة للبقاء والمقايضة بها في وقت لاحق على غرار ما هو حادث حالياً، بينما كان الفاعل في الثاني من آب أغسطس 1990 أحد أنظمة"القومية"العربية نظام صدام حسين. والأنكى ما حدث بعد ذلك، فعشية نكسة 67 التأم الصف العربي وأطلق في 26 آب لاءاته الثلاث الشهيرة لا مفاوضات، لا صلح، لا اعتراف، في حين أصيب هذا"الصف"بشرخ"رأسي"ما برح يتسع منذ أوائل التسعينات وحتى يومنا هذا، إلى درجة استبدلت فيها تلك"اللاءات"بموافقات مجانية لم يتوقعها الخيال الإسرائيلي يوماً. أم ماذا يقال عن الغزو الأميركي للعراق في 2003؟ أليس أشد مرارة وانتكاساً من هزيمة 1967، خصوصاً على مستوى الرابطة الرسمية العربية؟ فعلى الأقل جاءت النكسة في وقت كان يتمتع فيه النظام العربي بدرجة عالية من الثبات والقدرة الذاتية على الحركة، وليس مجرد تابع لقوة مهيمنة، لا يقوى على رفض مطالبها، على غرار ما هو حادث منذ احتلال العراق وحتى الآن. ألا يعد سقوط دولة عربية العراق في براثن احتلال أجنبي، نكبة جديدة تضاف لنكبة فلسطين 1948، وكان الأجدر بالدول العربية أن تسعى لترميم"شقوق"أزماتها السابقة، بدلاً من الاستمرار في حال الهزيمة"النفسية"التي تعيشها مجتمعاتنا منذ 1967. واقع الأمر أن الهزيمة من إسرائيل أقل بكثير، في تداعياتها السيكولوجية والمعرفية، إذا ما قورنت بهزيمتنا أمام الذات، وفي مواجهة الآخر. وإذا كانت أجيال ما بعد النكسة لم تعش لحظات المرارة والانكسار التي عانى منها"جيل النكسة"لعقود لاحقة، إلا أنها الآن تعيش حالاً أكثر هزيمة وانكساراً، فهي تبدو كما لو كانت مهزومة بالفطرة سياسياً ومعنوياً ومعرفياً وحضارياً: مهزومة سياسياً أمام حال القمع والاستبداد والفساد التي تتعرض لها مجتمعاتها، ومهزومة"معنوياً"أمام ثقافة الانتحار بشقيه الديني والاجتماعي، ويكفيها أن تجد في تنظيمات التشدد والعنف ملاذا آمنا للخروج من هزيمتها، ومهزومة معرفياً أمام خصم تاريخي بات يتحكم بخيوط اللعبة ويفرض شروطه على الجميع، دون أدنى قدرة على الردع، ومهزومة حضارياً أمام"آخر"يطاردها في عقر دارها، ويسعى لتفكيك مرجعيتها الحضارية والثقافية. إذاً لا جدوى في أن تتحول ذكرى النكسة كل عام كي تصبح حائط مبكى تُصب فيه اللعنات على كل روابطنا الثقافية والحضارية تحت شعارات المراجعة والتقويم، وأن يتحول جلد الذات إلي نفيها والخروج منها. والأجدر أن تتجه اللعنات إلي أنظمة ما بعد"الاستقلال"التي فقد معظمها الكثير من مبررات بقائه. ولو أن اليابان وألمانيا توقفتا عند هزيمتهما الساحقة خلال الحرب العالمية الثانية، لما تحولتا، بفضل إعادة البناء السياسي والهوياتي، خلال عقود قليلة، إلى مجتمعات تنعم بالنضج السياسي والاقتصادي. ولو وضعت نكسات وهزائم 48 و56 و67 في كفة، ونكسة العراق 2003 في كفة، لرجحت كفة العراق، ربما في كلا الحالين سقطت حقوق واحتلت أراضٍ عربية، بيد أن ما يحدث في العراق منذ سقوطه الى الآن سيظل يلاحق أجيالا عربية لفترات طويلة، فمعه انقضت أسطورة"النظام"العربي، الذي دخل في حالة سيولة، تمهيداً للتفكيك، على نحو ما ترسخ بقوة في حرب الصيف الماضي على لبنان، وبات مجرد الحديث عن الروابط العربية هذياناً يجب التبرؤ منه. وهذا في حين أصبح التراجع ولا نقول التفريط عن الحقوق العربية الثابتة في أكثر من مكان، خياراً استراتيجياً يحاول البعض مداراته تحت عباءة البراغماتية والواقعية. لم تسقط الهوية العربية بسقوط الجولان والضفة الغربية وسيناء في حزيران 67، في حين تتساقط الآن روابط أكثر عمقاً وتأثيراً، كروابط الدم والقرابة، على غرار ما هو حادث حالياً في لبنانوفلسطين والسودان من اقتتال أهلي وطائفي. ولم تؤد نكسة حزيران إلى بروز سياسات الأحلاف والمحاور ما بين عرب وفرس وعجم، في حين أثبتت"نكسة"العراق أن الإقليمية"الجديدة"في المنطقة تقوم على مواجهة العرب ببعضهم البعض. ولو أن عمليات التقويم والمراجعة التي جرت بعد هزيمة 67 اتجهت نحو البحث في كيفية إعادة بناء الدولة الوطنية على أساس ديموقراطي عقلاني، لما وصلت أوضاعنا السياسية والمجتمعية إلي الحال الراهنة من التردي والانهيار، فيما تحول بعض"قوميينا"القدامى، إلى جلادين في حُلّة"ليبرالية"جديدة، يمارسون من خلالها أردأ أنواع الجدل البيزنطي لمحاكمة واقعنا الراهن بوقائع تاريخية ولى زمانها، إلى أن وصل الأمر ببعضهم إلي حد التهكم على الإرث الثقافي والحضاري لروابطنا التاريخية، والمطالبة بالانخلاع من عباءة العروبة تحت دعوى المراجعة وأولوية البناء القُطري على نظيره"الجمعي"، على غرار الجدل الدائر في مصر حالياً حول جدوى انتمائها العربي. وختاماً، إذا كان البعض لا يرى في ما يحدث منذ هزيمة 1967 حتى الآن سوى مجرد أزمات عابرة، مقارنة بنكسة حزيران، فالأحرى أننا سنتشهد يوماً تتساقط فيه ذواتنا وهوياتنا إلى الأبد، دون القدرة على استعادتها. * كاتب مصري.