سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الروائي ألبير قصيري رحل عن 94 عاماً أمضى 60 منها في فندق باريسي واعتبر نفسه دائماً كاتباً مصرياً - جعل الكسل طريقة حياة وفلسفة وجود . الروائي الذي سبق نجيب محفوظ إلى "أحشاء" القاهرة
مات ألبير قصيري كما رغب في أن يموت، وحيداً في غرفة الفندق الذي أقام فيه نحو ستين عاماً، غير محاطٍ بأهل أو زوجة أو أبناء. مات مثلما عاش، بل كما شاء أن يعيش على هامش الحياة نفسها، بلا عمل سوى الكتابة، منسياً مثل أشخاصه المنسيين، متكاسلاً ولكن متوقد الذاكرة والعقل. سئل هذا الكاتب الكبير مرة عن الأدباء الذين يقرأهم، فأجاب:"لقد رحلوا جميعاً". وها هو ينضمّ اليهم هاجراً العالم الذي لم يحلم يوماً في تغييره. لئن كان ممكناً استخلاص"فلسفة"ألبير قصيري من صميم أعماله، فهي حتماً"فلسفة الكسل". فهذا الكاتب الذي سمّي"أشهر كاتب كسول في العالم"والذي ورث"البطالة"عن جدّه وأبيه الثريين اللذين لم يعملا، ارتقى بپ"الكسل"من مفهومه المزاجي أو السلوكي الى مرتبة الموقف الوجودي أو العبثي. كان الكسل كما عاشه واخترعه في رواياته حافزاً على مواجهة الحياة والزمن، وطريقة في الانتماء الى الوجود. وقد يشبه الكسل لديه حال الانسحاب من العالم والانزواء والنسك، ولكن في قلب العالم نفسه. هكذا عاش هذا المبدع الكسول وكأنه طيف لا يملك شيئاً، بل كإنسان نكرة لا يعرف ما معنى البيت ولا حتى"فاتورة الكهرباء"كما يعبّر. لكنه عاش بين كتبه وأوراقه، يقرأ ويحبّر الصفحات، بهدوء يخفي في صميمه توتر الإبداع. أما أشخاصه الذين جعلهم مصابين بداء"الكسل"ومنهم مثلاً أبطال رواية"كسالى الوادي الخصيب"وبعض قصص"الناس الذين نسيهم الله"فلا يدري القارئ إن كانوا مرآة الكاتب أو كان الكاتب مرآة لهم. انهم يشبهونه في عدم اقبالهم على الحياة وفي العيش بهدوء خارج سطوة الزمن. لكنهم طبعاً لم يكونوا مثله مبدعين بحسب عبارة ألبير كامو ? صديقه - التي مدح بها الكسالى معتبراً اياهم مبدعين كباراً ولو لم ينتجوا. هذا الكاتب الذي فتنتُ بأعماله مثل الكثيرين وقرأته وكتبت عنه حاولت كثيراً أن ألتقي به في باريس، لكنني لم أتمكّن إلا مرّة واحدة قبل عامين. كانت أعماله الكاملة صدرت في جزءين وكان هو فقد القدرة على الكلام بعد جراحة في الحنجرة، وكان يرفض مقابلة أحد، لا سيما أهل الصحافة. أما أداته الوحيدة للتواصل مع العالم فكانت ناشرته الفرنسية جويل لوسفيلد التي أحبّته ورعته حتى ساعته الأخيرة. في شتاء العام 2006 استطعت أن اخترق عزلته في غرفته الصغيرة في فندق"لويزيانا"في شارع"السين"المتفرّع من جادة سان جيرمان. وقد استعنت بإحدى الصديقات التي أقنعته عبر الهاتف في بهو الفندق بأن يفتح الباب لنا ويستقبلنا لدقائق. كان موظف الاستقبال الحائر بأمر هذا"النزيل"الأبدي قد بدّد حماستنا مؤكداً أنه لا يستقبل سوى ناشرته. لكننا صعدنا وفتح لنا الباب وحدثنا بالإشارة ولم يدعنا الى الجلوس، وغرفته أصلاً تكاد لا تتسع لسرير وطاولة وكرسي وبضعة كتب على الرفوف. ما أضيق عالم ألبير قصيري الواقعي: غرفة لا تتجاوز ستة أمتار مربعة هي كل"مملكته". لكن هذه الغرفة الدافئة كانت منطلقه لبناء عالم شاسع ورحب هو عالمه الروائي والمتخيّل بأحداثه الواقعية وشخصياته الكثيرة. تلك الدقائق لا أنساها ولا أنسى قامة هذا الرجل التسعيني التي لم تنحنِ. لكن الفرحة بلقائه لم تخل من أسى غير مبرّر طبعاً، أسى على حال هذا الكاتب الرائد الذي اختار قدره بنفسه رافضاً اغراءات الحياة. لكن ألبير قصيري لم يكن نزيل غرفته في ذلك الفندق فقط، بل كان أحد وجوه الشارع والجادة وبعض مقاهيها الشهيرة، لا سيما مقهى"فلور"الذي كان يقضي فيه ساعات وحيداً أو مع أشخاص عابرين. في هذه المنطقة من الحي اللاتيني عاش قصيري الثورة الأدبية الحديثة ورافقها منذ الأربعينات من القرن الماضي أيام"الغليان"الثقافي. هنا تعرف الى ألبير كامو وجان جينه وجان بول سارتر وهنري ميلر، والى رسامين كبار وفنانين. وهؤلاء أصبحوا أصدقاء له ورفاقاً في جلسات المقاهي. ألبير كامو سعى الى طبع مجموعته القصصية الأولى في باريس، وهنري ميلر ساهم في نشرها بالانكليزية في الولاياتالمتحدة، وكتب يقول عنه في"المقدمة":"ما من كاتب حيّ وصف، بطريقة مؤثرة وقاسية، حياة أولئك الذي يمثلون في الجنس البشري، عامة الناس المغمورين". لم يكتب قصيري فعلاً إلا عمن سماهم طه حسين"المعذبين في الأرض"، أولئك الفقراء والمتسولين والمشردين في الأحياء المصرية، في القاهرة والاسكندرية ودمياط. وربما سبق قصيري الكاتب نجيب محفوظ في ولوج العالم"السفلي"والبائس الذي يمثل الوجه الآخر للقاهرة وسائر المدن. فقصصه الأولى التي شكلت كتابه الأول"الناس الذين نسيهم الله""كان نشرها في صحف فرنكوفونية في مصر بدءاً من العام 1931، حينذاك كان نجيب محفوظ يعمل على الرواية التاريخية مستعيداً محطات من تاريخ أرض الكنانة. وكانت أولى رواياته"عبث الأقدار"1939 وتلتها"رادوبيس"1943 ثم"كفاح طيبة"1944. ولعلّ المقارنة بين روايات محفوظ اللاحقة وروايات قصيري قد تكشف العلاقة بين هذين الكاتبين اللذين لم يجمعهما سوى العالم"السفليّ"الحافل بالغرائب والطرائف والمآسي، وبالشخصيات المهمّشة والبائسة، الطيبة والشريرة. ظلّ ألبير قصيري يصرّ على استيحاء البيئة والواقع المصريين على رغم هجرته وطنه الأم منذ العام 1945 واختياره اللغة الفرنسية أداة تعبير وبطاقة انتماء الى عالم الأدب. وإصراره على جذوره المصرية دفعه الى رفض الهوية الفرنسية مؤثراً أن يظل روائياً مصرياً فرنكوفونياً لا فرنسياً. إلا أن أصالته كمواطن مصري مهاجر وليس مقتلعاً كما يخال البعض، جعلته"غريباً"أو هامشياً في فرنسا تماماً مثلما جعله اختياره اللغة الفرنسية"غريباً"وپ"هامشياً"في وطنه. فهي لم تُترجم الى العربية كما ينبغي لها أن تترجم وقد عبّر مراراً عن تبرّمه ازاء الترجمات العربية التي لم تنج من مقص الرقيب والركاكة والضعف. ولم يعرف قصيري أيضاً الشهرة التي من المفترض أن يعرفها كرائد من رواد الرواية المصرية الفرنكوفونية والفرنسية. ولعل كاتباً في حجم ألبير قصيري كان قادراً أن يستفيد كثيراًَ من"لغته"الفرنسية وأن يخوض عبرها موضوعات"عالمية"وقضايا عصرية على غرار بعض الكتّاب الفرنكوفونيين. لكنه أصر على"القضية المصرية"، إذا صح التعبير، رافضاً الخروج من شرنقته التي نشأ داخلها. فراح يستوحي"الحياة"المصرية في فجاجتها وواقعيتها ولكن عبر أسلوب طريف ولغة فاتنة. ولم تفقده لغته هذه، المتينة والمسبوكة، عفوية التعبير التي تجلت عبر اعتماده بعض المصطلحات الشعبية المصرية والتعابير العامية والحوارات الحية واليومية. وبدت شخصياته كأنها تتكلم"مصرياً"ولكن بالفرنسية. وتذكر بعض حوارات هذه الشخصيات في طرافتها وصلافتها باللغة الطالعة للتوّ من الشارع والأحياء. وبدا ألبير قصيري كأنه حين يكتب لا يفكر إلا بالعربية أو المصرية من غير أن يقع لحظة في شرك الثنائية اللغوية، أو ما يسميه الفرنسيون"أرابسيم"، وفي الركاكة التي تنجم عن هذه الثنائية. فهو يمنح جملته زخماً عربياً يجعلها تختلف عن الجملة الفرنسية. وهكذا لم يكن ألبير قصيري كاتباً فرنسياً يكتب عن الحياة المصرية، بل كاتباً مصرياً فرنكوفونياً يكتب عن مصر عبر لغة فرنسية جداً. أما ما يميّز أدب قصيري عموماً فهو ابتعاده من النزعة"الإكزوتيكية"المفتعلة التي سعى وراءها بعض الكتّاب المغاربة واللبنانيين بغية ابهار القارئ الفرنسي. فالكاتب المصري الذي لم يكتب إلا عن البيئة المصرية لم يقصد نقلها الى القراء الفرنسيين مفضوحة أو مضخمة أو مستلبة مقدار ما غرق فيها وانتمى اليها وتبنى قضايا الناس الذين كان يشعر في قرارته أنه واحد منهم. "لا سيرة لي" عندما سئل قصيري مرة عن سيرته الشخصية، قال للفور:"لا سيرة لي. لم أفعل شيئاً في الحياة. كل ما فعلت أنني أتسلى". وقد ظن الكثيرون ممن لا يعرفونه أنه هاجر مصر هرباً من الاضطهاد السياسي أو الديني، فيما هو غير معني بالسياسة بتاتاً. وقد عبّر مرة بسخرية شديدة عن"عدم انتمائه"الديني والطائفي قائلاً:"لست قبطياً، انني من الطائفة الأرثوذكسية الروسية أوه... انني من الطائفة الأرثوذكسية البيزنطية أوه... انني أرثوذكسي... انني... انني لا شيء مطلقاً". ومن يرجع الى روايات قصيري وقصصه يشعر فعلاً أنه ليس إلا واحداً من هؤلاء"المواطنين"الذين اختلقهم على صورته كي يكون بدوره على صورتهم، هؤلاء الذين نسيهم العالم والقدر. وهنا لا يسع قارئ ألبير قصيري إلا أن يتذكّر جوهر في رواية"شحاذون ومتعجرفون"الذي ارتكب جريمة من أجل أساور العاهرة أرنبة من غير أن يدري أنها مزيّفة، وكذلك يكن الذي تطارده الشرطة والكردي المهمش وسواهم. ولا يسعه أيضاً إلا أن يستعيد جلال المستسلم لإغراء النوم في رواية"الكسالى في الوادي الخصيب"وشقيقه رفيق الذي يصادق غانية، وسراج والأب حافظ الذي يسعى الى الزواج على رغم"الفتق"الذي أصيب به... وكذلك عبدالعال في رواية"منزل الموت المؤكد"، بائع الشمام الذي لا يعمل طوال السنة إلا خلال موسم الشمام وأحمد صفا المحتال والزبال ومرقّص القرود... شخصيات طريفة، ترفض العمل، تعيش كيفما اتفق لها أن تعيش، مستسلمة لقدرها الذي تساهم في صنعه ولا تحلم بالثورة إلا نادراً ونادراً جداً. انها شخصيات سعيدة في بؤسها لا تسعى الى تغيير واقعها، ترتكب الموبقات حيناً وتنحرف ولا تخشى العواقب. الرواية الأخيرة في العام 2000 وبعد أكثر من خمسين عاماً على هجرته وطنه الأول وبعد ست روايات ومجموعة قصصية صدرت في باريس في طبعات مختلفة فاجأ ألبير قصيري قراءه برواية جديدة هي"ألوان العار". هذه الرواية ستكون روايته الأخيرة وكان يدرك انها الأخيرة إذ قال بعد صدورها وفوزها بجائزة المتوسط:"ما الذي يمكنني أن أكتبه بعد هذه الرواية؟ لقد شتمت فيها الجميع". وفي هذه الرواية البديعة التي لم تنل ما تستحق من رواج، لا سيما في مصر، يصر قصيري على استيحاء مصر الخمسينات أو الستينات وعلى ولوج عالم القاهرة وبعض الأحياء الشعبية الفقيرة حي السيدة زينب، الحسين.... إنها رواية مناخ أكثر مما هي رواية أحداث، فهي تظل من غير نهاية محددة أو متوقعة وكأن الذريعة الرئيسة التي كان من الممكن أن تحرك الأحداث جعلها الروائي مجرد وسيلة للسخرية. وأقصد بالذريعة الرسالة التي وجدها أسامة النشال الظريف في محفظة سليمان متعهد البناء وكان سرقها منه حين خروجه من نادي الأعيان. والرسالة لو أذاعها أسامة ورفيقاه اللاحقان نمر وكرم الله كانت لتثير فضيحة كبيرة إذ انها موجهة من شقيق وزير الأشغال العامة الى متعهد البناء الثري جداً والملاحق قانونياً في تهمة الغش في تشييد بناء لم يلبث أن تهدم قاضياً على خمسين مواطناً. "ألوان العار"رواية مناخ تصنعه شخصيات ثلاث رئيسة تتقاطع معها شخصيات أخرى أبرزها سليمان متعهد البناء الغشاش. وان افتتح قصيري الرواية عبر الحدث اليتيم الذي قام به أسامة عبر نشله سليمان فإن أسامة لن يكون هو الشخصية الوحيدة أو الرئيسة في الرواية على رغم أهمية النموذج الإنساني الذي يمثله. وكان قصيري أصلاً استهل روايته استهلالاً مشهدياً واصفاً خلاله حركة"البشر"في الشوارع التي تؤدي الى ميدان التحرير الشهير في القاهرة. ولم يصف هؤلاء البشر المتسكعين والمتعطلين عن العمل والكسالى والمتنزهين تحت شمس حارقة يسميهم بپ"الهازئين الأبديين"المتصالحين مع بطالتهم وكسلهم إلا لينتقل فوراً الى أسامة النشال الظريف الذي كان يتكئ على الدرابزين مراقباً حركة هؤلاء"البشر"في العاصمة التي أضحت"قرية نمل"كما يعبّر. وبدا الروائي أو الراوي كأنه يصف حركة البشر من خلال عيني أسامة نفسه، إذ يقول:"أكثر ما كان يبهج أسامة أن يتأمل الهباء". أما أسامة كما يقدمه الراوي فسارق شاب في الثالثة والعشرين، ذو عينين سوداوين"يلتمع فيهما بريق لهو دائم". يرحل ألبير قصيري تاركاً وراءه ثماني روايات ومجموعة قصصية وديواناً شعرياً مجهولاً عنوانه"النهشات"وكان صدر عام 1931 في القاهرة. وقد يكون الحصول عليه حدثاً بذاته ولو لم يعتبر قصيري نفسه شاعراً. فهذا الديوان يندّ حتماً عن الخطوات الأولى التي خطاها قصيري في عالم الكتابة الذي كان لا يزال مبهماً في نظره. غير أنّ هذا الكاتب الذي كان مقلاً استطاع أن يكون كاتباً كبيراً بحياته الفريدة وعالمه الروائي الفريد.