وصف خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، المبادرة التي أطلقها حول حوار الأديان، بأنها دعوة لمواجهة تحديات الانغلاق، والجهل، وضيق الأفق، ليستوعب العالم مفاهيم وآفاق رسالة الإسلام الخيرة دون عداوة واستعداء. وهذا تكييف دقيق للمبادرة التي جاءت في الوقت المناسب، وفي مرحلة دقيقة من التاريخ طغت فيها موجات الكراهية والعنصرية والتمييز العرقي والفكري والثقافي والحضاري والتعصب والتطرف بكل أشكاله"من التطرف الذي يمارسه الساسة والقادة والنخب الفكرية والثقافية والإعلامية، إلى التطرف الذي ينسب إلى الدين والدين منه براء. إذ لا معنى ولا دلالة لقولهم التطرف الإسلامي، أو التطرف المسيحي، أو التطرف اليهودي، وإنما الصحيح أن يقال التطرف الذي يمارسه ويرتكب جرائمه ويتحمّل تبعته أفرادٌ أو جماعات ممن ينتسبون إلى الإسلام، أو المسيحية، أو اليهودية، وغيرها من الأديان. لقد كان خادم الحرمين الشريفين معبراً عن قيم الإسلام ومبادئه السمحة وروح الحضارة الإسلامية تعبيراً دقيقاً وافياً، حينما قال في الكلمة التي افتتح بها المؤتمر الإسلامي الدولي للحوار في مكةالمكرمة: إننا صوت عدل، وقيم إنسانية أخلاقية، وإننا صوت تعايش وحوار عاقل عادل، وصوت حكمة وموعظة وجدال بالتي هي أحسن. وتلك هي روح المبادرة الحضارية الرائدة التي تدعو إلى حوار الأديان، والتي انطلقت من أرض الحرمين الشريفين، وعلى لسان خادم الحرمين الشريفين، تأكيداً وتعزيزاً للقيم المشتركة بين المؤمنين، التي تنطوي على ما فيه الخير للإنسان والحفاظ على كرامته، وتعزيز قيم الأخلاق، والتعاملات التي لا تستقيم والخداع، تلك القيم التي تنبذ الخيانة، وتنفر من الجريمة، وتحارب الإرهاب، وتحتقر الكذب، وتؤسس لمكارم الأخلاق والصدق والأمانة والعدل، وتعزز مفاهيم وقيم الأسرة وتماسكها وأخلاقياتها التي جار عليها هذا العصر وتفككت روابطها، وابتعد الإنسان فيه عن ربه وتعاليم دينه. إن استشراء الانغلاق وتفشي الجهل وهيمنة ضيق الأفق على العقول، مسببات لكثير من المعضلات الإنسانية التي باتت تتفاقم في هذا العصر، ليس فقط على مستوى المعتقدات والمفاهيم والأفكار والحكم على الأشياء، وإنما على مستوى المواقف التي تتخذها بعض الدول على مسرح السياسة الدولية والسياسات التي تنهجها من أجل تحقيق الأهداف التي تعتقد أنها تخدم مصالحها الوطنية، وإن كانت في غالب الأحيان تتعارض مع هذه المصالح تعارضاً مطلقاً. وهذا الضرب من الانغلاق والجهل وضيق الأفق، يفضي دائماً إلى أوخم العواقب على جميع المستويات، ويفتح المجال للمغامرات السياسية الخطيرة التي تهدد الأمن والسلم في العالم، وتهز استقرار المجتمعات الإنسانية هزاً عنيفاً. فالانغلاق يطمس البصيرة ويسدّ منافذ الفكر السليم، والجهل يحجب الحقائق عن العقول ويُوقع في المزالق والمهالك ويخلق الأوهام، وضيق الأفق يحول دون الرؤية السليمة إلى الأمور، ويمنع من استشراف المستقبل والتوقع المبني على حسابات دقيقة، بحيث يجعل الفكر قاصراً عن إدراك حقائق الأمور والوقوف على أبعادها وفهم أسبابها وإيجاد الحلول للمشكلات والأزمات القائمة. وبالحوار المسؤول الصريح العاقل والعادل والجاد والهادف يمكن التغلب على هذه الآفات الثلاث وتجاوزها والانفلات من قبضتها. إن الجهل بحقائق الإسلام وبمبادئه السمحة، وفهم الإسلام على ضوء الأفعال التي يقوم بها أفراد أو جماعات إسلامية ومن خلال الأقوال التي تصدر عنهم، يؤدي إلى الحكم الجائر على الدين الحنيف. وذلك ليس من العقل الحصيف ومن التدبير السليم، ولا هو من سلامة الرأي وصحة الفهم. وهو الأمر الذي يفضي إلى الانغلاق بهذا المعنى"لأن للانغلاق معانيَ متعددة، وهو مما يغلق أبواب الفكر والنظر والفهم في وجه من يتصدون للعمل العام الذين يفترض فيهم تجنبُ هذه المزالق، والارتفاع إلى مستوى راقٍ من التفكير الرشيد. فالجهل بالإسلام على مستويات كثيرة"فهو من جهة، جهل نفر من أبنائه بما هو معلوم من الدين بالضرورة وقصور عقولهم عن استيعاب المقاصد الشرعية، بحيث يقعون في المحظور، بعد أن يستولي على عقولهم التزمت ويهيمن عليهم التطرف، فينحرفون عن جادة الحق، ويسقطون في مهاوي الضلال. وهو من جهة ثانية، جهل غير المسلمين بالإسلام، سواء لقلة معرفة، أو لاضطراب في المعرفة، أو لخلل في الفهم، أو لهوى في النفس، أو لانحراف في الطبع، أو لأحكام مسبقة مغلوطة. فهذا الثالوث الخطير إذن، هو الجرثومة التي تحطم جينات العقل السليم، وتفسد حياة الأفراد والجماعات، سواء الذين يتقلدون المناصب القيادية ويتحملون مسؤولية العمل العام، أو الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، أو يزعمون ويتوهمون أنهم ذوو شأن وأصحاب رسالة يدافعون عنها بالأفعال التي يجرمها القانون. والخطير في الأمر أن هذا الثالوث في مفهومه العام، يجمع بين الفئتين في الوصول إلى السبل المغلقة وارتكاب الأخطاء القاتلة. إن الانغلاق والجهل وضيق الأفق من السبل التي تؤدي إلى الإرهاب بشتى أنواعه وعلى مختلف درجاته. فليس الإرهاب من اختصاص الجماعات الإجرامية التي تحمل الشعارات الإسلامية فحسب، ولكن من الإرهاب ما تمارسه بعض الدول، فيكون بذلك إرهاب دولة، مع ما في هذا الوصف من تناقض كبير، لأن المفروض في الدولة، أي دولة، وحسب مبادئ القانون الدستوري، أن تلتزم القانون، وأن تصدر عنها أفعال لا تتعارض مع القانون، وأن تحترم الشرعية الدولية التي تتمثل في ميثاق الأممالمتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق والإعلانات والعهود الدولية ذات الصلة. فإذا ارتكبت دولة من الدول الإرهاب، بسبب الانغلاق والجهل وضيق الأفق، وبدافع من العنصرية والتمييز والتطرف، خرجت عن نطاق الدولة الدستورية القانونية، وصارت أقرب ما تكون إلى عصابة تمارس الإجرام. أما الإرهاب الذي تمارسه الجماعات ذات الألوان المختلفة، فهو أيضاً ناتج عن فساد في الاعتقاد، وضمور في التفكير، وقصور في الفهم. وتلك آفات خطيرة تجد متنفساً لها في غياب الحوار بشتى مستوياته. وفي هذه الأجواء ينمو التطرف نمواً سرطانياً بحيث يهدد الحياة الإنسانية تهديداً حقيقياً. إن صوت العقل ونداء الحكمة ولسان الصدق، كل ذلك يدعو الإنسانية اليوم إلى الانخراط في حوار عاقل وعادل وهادف، يبدأ وينطلق من حوار الأديان، وهو المعنى الذي يراد به حوارُ اتباع الأديان السماوية، المفضي إلى حوار الثقافات، والمنتهي إلى تحالف الحضارات. إن اضطراب حبل الأمن في مناطق عديدة من العالم، مردّه إلى هذه الآفات الآخذة في الاستشراء. ولذلك كانت الدعوة إلى مواجهتها ومعالجتها عن طريق تعزيز ثقافة الحوار بين الأديان، والحوار بين الثقافات والحضارات، وترسيخ قواعده، وتأصيل مفاهيمه، دعوة رشيدة وصوت العقل والحكمة. وهي ليست دعوة دينية ثقافية فكرية فحسب، ولكنها في العمق والجوهر، دعوة إلى ترشيد السياسة الدولية على النحو الذي يقطع الطريق أمام المغامرين من كل الأصناف، والموتورين والغلاة المتطرفين من كل الأجناس، الذين يبثون الكراهية في المجتمعات، ويؤلبون الشعوب بعضها على بعض، ويعيثون في الأرض فساداً ذا ألوان وأشكال وامتدادات وانعكاسات وتأثيرات في الحياة الإنسانية. * المدير العام للمنظمة الإسلاميةپللتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو