يمضي كمال عبداللطيف في كتابه "أسئلة النهضة، التاريخ، الحداثة، التواصل"، إلى تأكيد أثر الغرب في النهضة العربية، فهو وإنْ اعترف بحركة سياسية عربية تبلورت في العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر نتيجة تطور داخلي، إلا أنه يرى أن الحضور الغربي الوافد هو الذي وقف وراء الحركة التي حصلت في تلك الحقبة. وهو بذلك لا يخرج عن آراء غيره من الذين يعدُّون صحوة العرب نتيجة منطقية للقاء مع الغرب المتمدن من أمثال فهمي جدعان وعلي محافظة وغيرهما، وهي نتيجة تتكرر لدى الكثير ممن درسوا حقبة النهضة العربية، وهي لا نظرة تحتاج اليوم الى مراجعة لما أتت به من مسلمات وترسيمات معرفية. وهذه النظرة تكشف عن نتائج مختلفة عن تلك التعميمات التي أطلقت. أو التي عالجت أمر التحديث والنهضة بمعزل عن التجربتين التركية والإيرانية او البحث عن حقبة ما قبل حملة نابليون على مصر والشام. تقدم الأدبيات الدارسة لموضوع الإصلاح العربي والإسلامي ومعانيه في حقبة النهضة والذي كان منشوداً آنذاك، خلاصة مفادها أنه كان يشف عن غايات عدة، فهو دعوة إلى تغيير أو إصلاح لنظام دولة سلطانية قائمة، ويمكن أن يكون تغييراً في لباس ثورة أو يكون إصلاحاً مقتبساً من محاكاته لنموذج محدد وهو الغرب. ويبدو أن هناك مستويين للإصلاح في تاريخنا الحديث، تتابعا ولم يتزامنا، المستوى الأول مستوى تقليد العالم الغربي والمجتمعات الغربية، والثاني جاء بعد هذه المرحلة وهو مستوى إعادة التفكير في هويتنا مسلمين وعرباً وحضارة مشاركة في الفعل الإنساني وهو ما حاوله مالك بن نبي فيما بعد. عربياً وتركياً وإيرانياً شكل مطلب التحديث واللامركزية والحرية لب الجهد الإصلاحي، كما ظهر أن رفض الاستبداد انبرى من منطلقات دينية ظلت مستمرة في مشروع النهضة من بداية القرن التاسع عشر وحتى اليوم وهذا ما راح عالي شكري يبحث عنه في كتابه"دكتاتورية التخلف"أو محمد عابد الجابري في بحوثه المختلفة حول العقد السياسي العربي. تفيد قراءة تطور سجال الإصلاح وتبدو أكثر فائدة غالباً بإحداث مقارنات بين العرب والأتراك والإيرانيين، ففي مقابل سيادة أفكار المرجعيات الدينية التي انتهت إلى مبدأ ونظرية ولاية الفقيه في إيران، تطورت لدى الجيران العرب الأفكار الإسلامية السنية ولم يعد الحل عندها مرتبطاً بنهايات إصلاحية قصوى، وعلى رغم أن المخرج ظل يستند إلى حاكمية الله، في صيغة مفادها أن"الإسلام هو الحل". وإزاء الحفاظ على الوعود، انخرط الإسلاميون في العملية السياسية العربية، وتحول قسم منهم إلى لاجئين جدد خارج أوطانهم، وصار لزاماً على المنخرطين في المشهد السياسي التعامل مع واقعية سياسية راهنة، في الوقت الذي ظل يُنظر إليهم على أنهم خارجون على الشرعية أو أنهم لا يملكون سوى الرفض من دون الحلول والبرامج، في حين نظرت بعض فرقهم وتياراتهم إلى النظام الرسمي بأنه يمثل فسطاط الكفر. السؤال اليوم، وفي موعد المئوية الأولى للانقلاب التركي 1908 والذي انتهى بإعادة العمل في دستور عام 1876 كيف تطورت حركة الإصلاح في داخل البيئة التركية وكيف عبرت عن حالها، وهل افترقت في صورتها عن الجارين العربي والإيراني؟ بداية جاء الإنقلاب التركي على العهد الحميدي الذي تميز بكثافة الصراعات الاجتماعية والنزعات الاستقلالية، والحقبة الحميدة جاءت بقوة وبطش سياسي يرى الدارسون أنه نتيجة لرد الفعل المزدوج ضد إضعاف سلطة السلطان في حقبة التنظيمات، وضد النغمة الليبرالية والنزعة الدستورية لمدحت باشا، وكان السلطان عبدالحميد يرى ان تلك الحقبة تقود البلاد للهاوية لا بل كان يرى ان الشعب العثماني ليس ناضجاً بعد لمحاولة خوض تجربة برلمانية جديدة. إبان حقبة التنظيمات برز دعاة الإصلاح وهم محمد امين علي باشا 1815-1871 ومحمد فؤاد باشا 1815-1869 وكان الألمع والأبلغ أثراً مدحت باشا 1822-1884، لكن ما خلفية هؤلاء الدعاة الأتراك؟ وكيف آلت التجربة؟ تفيد التراجم التركية بان للدعاة الثلاثة سيراً متشابهة، فقد مثلوا شباباً مكرسين للعلم والدراسات الدينية، وكانت لهم خبرة في مراتب البيروقراطية العثمانية الدنيا أولاً ثم تدرجوا لمواقع عليا، وكانت لهم علاقات مع أوروبا وعملوا في وظائف إدارية متنوعة. وهم في الغالب كانوا يعيشون في زمن قيل فيه ان طوق النجاة يمر عبر الانفتاح على الغرب. ومع ان الخبرة في العمل البيروقراطي والعلاقة مع الغرب، قد تحدث أثراً لدى جيل الدعاة الأتراك نحو الإصلاح، إلا ان المعارف الدينية الإسلامية والخبرة العملية كان لها نصيب في النجاح الذي أصابوه، مثلاً محمد أمين باشا كان ابن تاجر صغير في اسطنبول ودخل في خدمة الباب العالي في سن العشرين ثم عين سفيراً في لندن وكان يميل للغات الأجنبية، ويعود له الفضل في إصدار ما عرف بالخط الهيمايوني المرسوم السلطاني عام 1856 الذي شكل برنامجاً جديداً للإصلاح في عهد السلطان عبدالمجيد. أما محمد فؤاد باشا، فيتحدر من أسرة علم، درس الطب في البداية، والتحق بالجيش، وعمل في ما بعد في مكتب الترجمة التابع للباب العالي، وعين بعد ذلك ترجماناً في السفارة العثمانية في لندن، ثم بعد اثني عشر عام صار وزير الشؤون الخارجية، وقد لعب دوراً في رسم السياسات الإصلاحية المؤسسية. آخر كبار المصلحين في ذلك العصر هو مدحت باشا، الذي تلقى تعليماً دينياً ثم حصل على وظيفة في الصدارة العظمى، ورحل لأوروبا لأشهر عدة لكنه لم بيق فيها. ومع ان سابقيه ارتقيا في مجال الوظائف الديبلوماسية والإدارية المركزية في اسطنبول، فإن مدحت باشا تلقى خبرة كبيرة في إدارة الولايات، فقد خدم والياً في"نيش"وپ"الدانوب"وبغداد وبنى سمعة طيبة في دمشق ومن آثاره فيها مثلاً"سوق مدحت باشا". اكتسبت صورة رجل الإصلاح في عهد مدحت باشا برأي الباحث"بول دومون"نمطاً جديداً وكانت علائمه فارقه عن غيره، ففي حين كان مهندسو التنظيمات يرون ان الإصلاح لا يتم إلا بالتغريب وعبر وصفات محددة، فإنها بالنسبة الى مدحت باشا كانت تعني الإنصات لأصوات الولايات البعيدة، التي انبرت تطالب باللامركزية أكثر من المجالس التشريعية. وفيما أكد المصلحون العثمانيون ضرورة إتباع الغرب، كان مدحت باشا يرى ان عالم ولايات الإمبراطورية المتعدد والمتنوع يشكل أفضل مجال حيوي لبناء الإصلاح،لا بل هو المختبر الحقيقي له. وفي النهاية أثمرت ضغوط الدستوريين الأتراك على السلطان عبد الحميد بالمطالبة بضرورة إعادة العمل بالدستور المعطل - دستور 1867 والذي عطل عام 1878 - واتصل المطالبون بالدستور بمراجع النجف العلمية، وتعاطف معهم الملا كاظم الخراسانيت:1911م فأرسل رسالة شديدة يؤيد بها الحركة الدستورية، ونتيجة لضغوط المراجع الشيعة وعلماء السنة تدخل شيخ الإسلام حاضاً السلطان عبدالحميد على ضرورة تحقيق مطالب الدستوريين. وبهذا نجحت الحركة الدستورية مرة أخرى وأعلن الدستور في يوم 23 تموز يوليو 1908 والتأم مجلس المبعوثان من جديد رغماً عن إرادة السلطان عبدالحميد الذي لم يطل به البقاء أمام قوة الدستوريين الذين صدّروا فتوى بخلعه وقعها شيخ الإسلام، وشكل وفد لتبليغ عبدالحميد الثاني بها، وتنصيب السلطان محمد رشاد مكانه. وحدث أن ذهب الوفد لتبيلغ السلطان المخلوع بقرار الخلع، وعندما وصل الوفد وجدوه في إحدى الصالونات مرتدياً حلة سوداء. فقالوا له:"الأمة خلعتك"، وسأل عن حياته فأجابوه بالأمان، فاختار أن يقضيها في قصر جرغان، إلا انه انتهى في قصر بسيط في قرية قريبة من سلانيك. من هنا تظهر فوارق الإصلاح التركي عنه في المجال العربي، فقد عمل الدعاة الأتراك في مكاتب الدولة وصقلوا في تجارب إدارية وديبلوماسية أولاً، ثم أن الانتصار ثانياً لم يمكن لدعوة الاقتباس من الغرب ولا التوفيق مع منجزاته بقدر ما كانت النهاية استجابة لصوت الداخل الذي شكل عالم الإصلاح ومجاله والذي من اجله جاءت ثورة 1908م. * أستاذ التاريخ والحضارة المساعد في جامعة فيلادلفيا الأردنية