ثمة ظاهرة مزدوجة لا يسعنا إغفالها هي انتشار العنف في أرجاء العالم وتكاثر الأزمات والمنازعات المسلحة في ميادين ضيقة، وتعاظم النفقات العسكرية في معظم البلدان ما عدا أوروبا. فأوروبا تشكو توحداً أو انكفاء على النفس، يوصد عليها إدراك أحوال العالم الحربية وأطوارها الجديدة. والظاهرة الأخرى هي اختيار معظم الجيوش الأوروبية تجنيد المحترفين. وما كان يتراءى، وتخشى عاقبته، منذ 1996، ها هو قائم ومحقق: فالأوروبيون ضعيفو الاهتمام بمسائل الدفاع منذ إقرار تجنيد المحترفين، وإلغاء الخدمة العسكرية وقوات الاحتياط. وترتب على هذا ضعف رابط الجيش بالأمة. والحق ان علينا الخروج من طور القرن العشرين الاستثنائي، وإملائه ضرباً من المساواة بين الفاعلية العسكرية وبين التدمير. وقادت المساواة أو المعادلة الى حرف الحرب عن دورها. ففي أثناء الحروب الاستعمارية أدرك بعض كبار آبائنا مثل المارشالين ليوتيه وغالييني ان التدمير ليس غاية، وإنما الغاية هي التعاون مع النخبة المحلية على بناء إطار سياسي يتيح للنخب هذه الاضطلاع بمهمتها. وليس معنى الملاحظة ان نتخلى عن أشكال الحرب التي نحسن خوضها، فهذه الأشكال قد تعود من جديد. فعلينا إعداد جنودنا لخوض حروب"الأمس"التقليدية، ولخوض الحروب الجديدة، معاً وفي آن. فليس ثمة في الميدان"جنود إنسانيون"، بل هناك جنود مقاتلون ويتولون مهمة أخرى. وهذا يفترض الانقلاب من القدرة على استعمال السلاح استعمالاً بالغ العنف الى نجدة السكان المدنيين في وقت واحد. ومنذ العراق، شهد فهم الحرب الغربي، والأميركي على وجه الخصوص، انعطافاً حاداً. فالأميركيون لم يكن"اليوم التالي"، أو غداة المعارك الحربية، يشغلهم. وحصروا همهم بالانتصار في المعركة. وإلى هذا، أوّلوا"الثورة في الشؤون العسكرية"تأويلاً تكنولوجياً خالصاً. وتوقعوا ان تثمر التكنولوجيا نتائج سياسية مباشرة. وظهر خطأ التوقع هذا في العراق وأفغانستان ولبنان. وما تحقق خطؤه في العراق هو التعويل على إيتاء انتصارات عسكرية سريعة ثماراً استراتيجية ثابتة. ولكن الدول الغربية تلقى عسراً في إقناع جمهور مواطنيها بتعلق أمنهم، في دولهم وبلدانهم، بما أسميه"معارك الخطوط الأمامية"، في الهندوكوش أو غيره من المسارح المحتملة. ويقتضي هذا تولي السياسيين والمخططين الاستراتيجيين الإلحاح في الأمر. فالوقاية أجدى عملياً، وأقوم أخلاقياً، من معالجة العنف حين اندلاعه، وحيث يصيب اندلاعه المدنيين في أحيائهم ومساكنهم. ولا يترتب على هذا الأخذ ب"الحرب العادلة". فهذه تفترض ترجيحاً اخلاقياً لكفة على كفة، أو لخصم على خصم. والترجيح هذا نذير أخطار كبيرة أولها حمل الهدف الحربي على هدف أخلاقي، مطلق مثله. فيدعو الهدف الأخلاقي المطلق الى إعمال وسائل مطلقة، والحق ان الثقافة الاستراتيجية الأميركية تحل مفهوم"الحرب العادلة"مكانة عالية. والحق في التدخل تتقدم صفته الأخلاقية صفته السياسية. وعلى خلاف المفهوم الأميركي يقدم الأوروبيون، وهم اعتادوا الخلافات الناشئة عن الجوار، الصفة السياسية على الأخلاقية. ولا تستقيم المزاعم السياسية الطموحة مع تقليص القوة العسكرية الميدانية, فميزان المكانة السياسية، في الأمس القريب، كان القوة النووية، وامتلاكها كان يساوي مقعداً دائماً في مجلس الأمن. واليوم، الفيصل هو قدرة الأمم على نشر قوات ميدانية وجاهزة سريعاً، حيث يبت في الأزمات. وثمة عتبة لا يجوز النزول عنها، فإذا بُلغت انقلبت الدولة الى مرتبة ثانوية. عن فانسان ديبورت، موقع"بروجيكت سانديكايت"الدولي، 28/4/2008