يشير عدد من المراقبين إلى فراغ القوة الذي برز إثر الحرب الباردة لتفسير نزاعات معاصرة، على غرار تلك التي تدور في سورية أو السودان، فطيّ الحرب الباردة، على زعمهم، كان فرصة قوات التمرد لملء الفراغ. وساهم في بروز دور المتمردين، عولمةُ التجارة، التي أغرقت العالم النامي بسلاح بخس الثمن، وتأجيجُ نموِّ طبقة المستهلكين العالمية النزاعاتِ على النفط والمعادن، وانتشار المجموعات الجهادية التي استندت إلى شبكة المقاتلين المدربين في أفغانستان وباكستان. ولكن مثل هذه التفسيرات تغفل السياق الأوسع، أو النطاق الاعم للنزاعات، فالناظر إلى عصر الحداثة -من الثورتين الأميركية والفرنسية إلى اليوم- يلاحظ أن النزاعات والحروب تجمعها أنماط مشتركة وثيقة الصلة ببروز «الدول– الأمم» وتطورها، فإلى القرن الثامن عشر، غلبت الإمبراطوريات والسلالات الملكية والفيديراليات القبائلية و «الدول– المدن» على شطر راجح من العالم، وكان هذا الضرب من الحكم هو السائد والغالب. ولكن الأمور تغيرت إثر صوغ القوميين مفهوم مفاده «على كل شعب أن تحكمه حكومة منبثقة منه»، وأن كل إتنية لها الحق دون غيرها في حكم أبنائها. وهذا يقضي بأن يحكم السلوفاكيون السلوفاكيين وليس آل هابسبورغ... إلخ. وفي القرنين الأخيرين، غيّر مفهوم الشرعية السياسية هذا وجه العالم، على وقع تشكل «الدول- الأمم»، وفي معظم الأماكن، اتسمت هذه المرحلة الانتقالية بفترتين من النزاعات، أولاهما عنف يترافق مع تأسيس «الدولة- الأمة» نفسها، وثانيتهما نزاع دموي مداره على حق إتنية أو مجموعة قومية في تولي السلطة في الدولة الوليدة وعلى حدود البلد النهائية. فتشكل الدول هو وراء نشوب الحروب الأهلية والحروب بين الدول، ونحو ثلث البلدان في يومنا هذا أبصر النور إثر خوض حروب استقلال عنيفة وحدت -ولو كان التوحيد موقتاً- السكان المتنوعي المشارب في إقليم كولونيالي أو إمبريالي ضد الحكام. ولكن عدداً لا يستهان به من «الدول– الأمم» المولودة من رحم هذه الحروب، ألمّت بها نزاعات عنيفة فصولها أعنف من حروب الاستقلال، فمبدأ المماثل أو النظير يحكم نظيره أجج النزاعات في صفوف من سطروا النصر (المستقلين حديثاً). ودرجت الحكومات الإمبريالية على تجنيد إتنيات صغيرة في الجيوش الكولونيالية وفي الوظائف البيروقراطية، فعلى سبيل المثال، رجح البلجيكيون كفة إتنية التوتسي –وهي أقلية- على كفة إتنية الهوتو الغالبة في وظائف الدولة، وفي غيرها من المستعمرات السابقة هيمنت نخب متعلمة على الوظائف البيروقراطية والأجهزة الأمنية في الدول الطرية العود، فشعرت المجموعات الأخرى بالضغينة والاستياء إزاء مخالفة مبدأ النظير يحكم نظيره. وشطر راجح من الحكومات «الجديدة» افتقر إلى قوة سياسية أو موارد تمكنه من مد اليد إلى الشعب كله وردم ثغرات اللامساواة الاجتماعية الموروثة من المرحلة الاستعمارية، فبقي شطر راجح من السكان على حاله من التهميش السياسي. وغيّر رجحان كفة المبدأ القومي ونزولُها في مرتبة ركن المشروعية السياسية، النظرةَ إلى اللامساواة الإتنية السياسية، وصارت هذه صِنْوَ التفرقة المخزية، فوسَّع قادة المعارضة استمالة الأتباع وشن نزاعات مسلحة ضد أنظمة إقصائية. ومنذ 1945 إلى اليوم، تُظهر الأرقام أن ثمة رابطاً وثيقاً بين اللامساواة والنزاعات: فتجاوز نسبة المهمَّشين سياسياً عن عتبة ال30 في المئة يساهم في ترجيح «حظوظ» الحرب الأهلية 25 في المئة، ونحو 40 في المئة من الدول المستقلة امتحنها فصل على الأقل من فصول التمرد الإتني السياسي منذ الحرب العالمية الثانية. وليست اللامساواة السياسية في «الدولة– الأمة» العاملَ اليتيم في اندلاع النزاعات والحروب، كما لا يستهان بقدرات الدولة القمعية في الحؤول دون اندلاع نزاعات، فتنظيم عصابات مسلحة في شمال الصين -على سبيل المثل- عسير، بينما هو يسير في الصومال. والحروب الأهلية غالباً ما تندلع في دول فقيرة ترتبط فيها الحظوات الاقتصادية بشبكة علاقات الحكومة. وقد لا يبرز قادة متعلمون في كل المجموعات الإتنية المهمشة يتولون قيادة الحركة السياسية أو يقومون بحركة تمرد. وتتعرض «الدول– الأمم» الطرية العود للانزلاق إلى الحروب أكثر من الإمبراطوريات أو الممالك الراسخة، وتشغل «الدولَ– الأمم» الشؤونُ الحدودية، فبعض الإتنيات منقسمة وتعيش في دول متجاورة، وقد تنتهي الأمور إلى بقاء الإتنية في الجانب «الخطأ» من الحدود، أي في دولة تهيمن عليها إتنية مختلفة، ففي التسعينات -على سبيل المثل- قاومت الأقلية الصربية الاندماج في دولة كراوتيا الجديدة ودعمت حكومة صربيا هذه الأقلية، فاندلعت الحرب بين كرواتيا وصربيا، وانتهت إلى ترحيل الكروات الصرب. لكن النزاعات المحلية على «ملكية» الدولة الجديدة لا تدوم إلى «الأبد»، ومتوسط «حياة» النزاعات هذه هو 60 عاماً. وأفلحت بعض الدول التي يسودها حكم مركزي قوي وتنتشر فيها منظمات مجتمع مدني راسخة في فصل التحالفات السياسية عن الانتماء الإتني، على ما هي الحال في سويسرا، أو في الحث على الاندماج في المجتمع الأوسع، على ما هي الحال في فرنسا وبوتسوانا. وخير دليل على الصلة بين مبدأ حكم النظير نظيره والدولة الأمة من جهة، وبين النزاعات والحروب الأهلية، هو حال سورية اليوم، فالانتفاضة العربية على الحكم العثماني في الحرب العالمية الأولى لم تفض إلى الاستقلال بل إلى هيمنة استعمارية فرنسية، واستقلت سورية عن فرنسا في نهاية الحرب العالمية الثانية بعد سلسلة من الانتفاضات المثبطة في عشرينات القرن الماضي. والاضطرابات السياسية في مرحلة ما بعد الاستعمار في هذا البلد وثيقة الصلة بتوزيع القوى السياسية بين نُخب الإتنيات. وإثر سلسلة من الانقلابات، وضعت عشيرة الأسد والطائفة العلوية الصغيرة اليد على «مُلكية» الدولة، وصارت سورية نموذجاً كلاسيكياً عن الإتنوقراطية، أي غلبة إتنية (قومية) صغيرة على جهاز الدولة كله، وعوّض نظام الأسد افتقاره إلى دعم شعبي ومشروعيةٍ سوريةٍ من طريق توسل خطاب عروبي ومعاداة إسرائيل واستمالة النخب الاقتصادية السنية وبناء جهاز أمني ضخم اخترق نسيج المجتمع السوري كله، وقمع أي معارضة قمعاً عنيفاً، كما حصل في 1982. ويرجح أن السلام لن يرسى في سورية قبل أن يرحل الأسد ويتم ترسيخ بنى سياسية تُشرِك الأغلبية السنية في الحكم، وقد ينتهي الأمر بالأكراد إلى إنشاء دولتهم المستقلة في المستقبل. والسودان شأنه شأن سورية والعراق، فعقود من الحرب القومية انتهت إلى انفصال جنوب السودان في 2011 عن شماله. والتوتر بين الدولتين يدور على الحدود بينهما، فالتقسيم الحالي يترك عشرات الآلاف من الأفارقة غير المسلمين على حالهم من التهميش في شمال السودان. وفي جنوب كردوفان والنيل الأزرق، المنطقتان شمال خط التقسيم، واصل مقاتلون سابقون من أجل استقلال الجنوب مهاجمة القوات الشمالية، وفي الجنوب اندلعت نزاعات محلية جرّاء لامساواة إتنية سياسية. وإثر الاستقلال، تعاظمت الشكاوى إزاء هيمنة مقاتلي «دينكا» السابقين الذين كانوا وراء تأسيس حركة الاستقلال وكانوا على رأسها، على الجيش والجهاز البيروقراطي، واندلعت نزاعات بين القوات الحكومية ومتمردين يرفعون لواء تمثيل قبائل النوير. وموارد النفط لا يستهان بها، والنزاع بين جنوب السودان وشماله لن تذلِّله اتفاقات ترسيم حدود، ويرجح أن تبقى نيرانه تعسّ، وأن تتواصل فصوله من غير احتدام. ولا تغرد كوسوفو خارج سرب النمط هذا، فهي استقلت بعد عقد من حراك قومي ضد حكم صربي «أجنبي»، وفتيل التوتر لم ينزع بين الأغلبية الألبانية في كوسوفو والأقلية الصربية. وحماية «الناتو» حالت دون تطهير المعاقل الصربية في الإقليم المستقل. ولو لم تخش صربيا كرَّ سبحة القصف «الأطلسي» عليها، لتدخلت عسكرياً من أجل حماية أخواتها في القومية ما وراء الحدود، ولاندلعت حرب بين الدولتين. وعليه، يحول التدخل المبكر دون اندلاع نزاعات وانفجارها إلى حرب شاملة على ما حصل في البوسنة. وخلاصة التجربة البوسنية أن القائمة لا تقوم لحل يُلزم نخباً قومية متباينة على تقاسم السلطة في دولة ثمة إجماع على لفظها ونبذها. والحق أن هذا النمط التاريخي ليس جامعاً وعاماً، والامثلة على الخروج عليه كثيرة، وبعض «الدول- الأمم» المختلطة قومياً، ومنها الجبل الأسود، برزت من غير عنف ولم تعرف الحروب، واندلع أشد النزاعات في «دول– أمم» مستقرة، مثل كولومبيا، وفيها لم يكن للقومية أو الإتنية ذنب في النزاع. * استاذ علم اجتماع، عن «فورين أفّيرز» الأميركية، 7/11/2013، إعداد منال نحاس