بذلت جهود كثيرة للتقريب بين وجهة النظر الأميركية التي تقوم على ضرورة استخدام القوة وإن اضطرت إلى خوض الحرب بمفردها اعتماداً على تفوقها العسكري الهائل، وبين وجهة النظر الأوروبية التي ترى أن الجهود لحل المشكلة سلمياً لم تستنفد أغراضها تماماً، وأنه لا بد من إعطاء أولوية مطلقة لقواعد القانون الدولي وأخلاقياته قبل الالتجاء إلى القوة ضد دولة عضو في الأممالمتحدة. واعتبرت أميركا أن تردد أوروبا عن المشاركة في الحرب على العراق ناجم في الحقيقة عن الضعف والخوف وليس عن مبادئ أخلاقية وإنسانية، كما كشف عدم إدراكها الأبعاد الحقيقية للأخطار التي تهدد العالم بعد أحداث 11 أيول سبتمبر. لكن بعض الكتاب الأميركيين أنفسهم رد هذا الموقف المتخاذل من أوروبا إلى خوفها مما قد يحدث بعد الحرب حين تنفرد أميركا بالسيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية على العراق الذي سيكون في هذه الحال مستعمرة أميركية، وأن هذا الوضع الجديد سيثير العالم العربي والإسلامي ويؤجج مشاعر العداء ضد الغرب ويهدد بالتالي مصالحه الحيوية في المنطقة. والواقع أنه كانت هناك قبل ظهور مشكلة حرب العراق مظاهر كثيرة للتمرد الأوروبي - بل العالمي - على أميركا وسياستها الخارجية. وظهر التمرد بوضوح في عدد من المناسبات مثل إخفاق أميركا في الاحتفاظ بمقعدها في مفوضية حقوق الإنسان التي أنشئت العام 1947 بمبادرة من السيدة إليانور روزفلت، وظلت أميركا تشغل ذلك المقعد منذ ذلك الحين، كما فقدت مقعدها في المجلس الدولي لمكافحة المخدرات في الوقت الذي أفلحت دول مثل إيران والبرازيل وبيرو والهند في الاحتفاظ بمقاعدها ما كان له أثر سيىء في الأوساط السياسية الأميركية واستدعى بعض التعليقات اللاذعة التي تعبر عن المرارة. وبصرف النظر عن مدى فاعلية هذه المفوضيات والمجالس على أرض الواقع فإن مجرد فشل الولاياتالمتحدة في الحصول على الأصوات اللازمة للفوز اعتبر صفعة لسياساتها. فالفشل هنا له بعد رمزي يشير إلى ازدياد العداء للسيطرة والهيمنة والانفراد والتفرد بقيادة العالم. وما يثير قلق أميركا هنا أن هذا التمرد لم يعد قاصراً على دول العالم الثالث وإنما امتد إلى بعض الدول الأوروبية الحليفة التي أساءها رفض أميركا التصديق على عدد من الاتفاقات التي اتفق المجتمع الدولي على أهميتها وضرورتها مثل بروتوكول كيوتو عن التغيرات المناخية وضرورة التحكم في استهلاك الطاقة والاتفاقات الخاصة بتحريم بث الألغام الأرضية ضد الأفراد، ورفض الموافقة على خفض أسعار الأدوية اللازمة لمعالجة الإيدز، ومعارضتها إنشاء محكمة الجنايات الدولية لئلا يتعرض للمحاكمة في يوم من الأيام بعض الجنود الأميركيين لارتكابهم جرائم حرب في البلاد التي دخلت - أو ستدخل - فيها القوات الأميركية مثل يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق وهكذا. ومن المؤكد أن الاتجاه الأميركي للانفراد باتخاذ القرار في الشؤون الدولية كانت له بوادر منذ عهد كلينتون، على ما يظهر مثلاً في ما قالت مادلين أولبرايت من أن الولاياتالمتحدة أصبحت "الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها لقدرتها على إقامة تحالفات بين الدول القادرة والمستعدة للتدخل في شؤون الدول الأخرى من دون موافقة مجلس الأمن". لكن إدارة كلينتون لم تكن تأخذ الأمور بالغطرسة التي تميز إدارة بوش حتى أصبحت تهدد التحالف التقليدي بين جانبي الأطلسي. وفي أي حال فإن فترات العلاقات السيئة بين أميركا وأوروبا ليست جديدة تماماً. فكثيراً ما كان الطرفان يتبادلان الانتقادات العنيفة التي ازدادت حدتها منذ بداية القرن العشرين وراحت تهدد استمرار ذلك التحالف. وساعد على توسيع الهوة بين الطرفين، على ما تقول جيسيكا ماثيوس رئيسة إدارة المنح في مؤسسة كارنيغي في محاضرة لها في كانون الثاني يناير من العام الماضي 2002، أن الاتحاد الأوروبي لا ينظر إلى نفسه - من الناحية الاقتصادية على الأقل - على أنه مجرد تابع أو شريك ثانوي لأميركا. فعدد سكانه أكبر من تعداد أميركا، ونصيبه من التجارة العالمية أكبر، وإسهامه في موازنة الأممالمتحدة يفوق إسهام أميركا 37 في المئة مقابل 23 في المئة لذا فهو يرفض الانصياع السلبي لأميركا وقبول وجهة نظرها من دون مناقشة، وهوأمر لا ترتضيه أميركا. فهي ترى أن الاتحاد الأوروبي لا يزال أضعف من أن يتخذ قرارات مستقلة في مجالات السياسة والأمن وليست له قدرة الدفاع عن نفسه، بعكس حال الولاياتالمتحدة. وتأخذ جيسيكا ماثيوس على الاتحاد الأوروبي مبالغته في توجيه الانتقادات لأميركا ورغبته الجامحة في الاستقلال عنها في معالجة كثير من المشاكل الدولية المعقدة وأن ذلك قد يكون ناجماً - حسبما تقول - عن شعوره بالنقص إزاء قوة أميركا الطاغية. ويبدو أن اتهام الاتحاد الأوروبي بالشعور بالنقص أمام أميركا أصبح أمراً مسلماً به لدى كثير من الكتاب والمفكرين الأميركيين. ففي عدد حزيران - تموز يونيو/ يوليو 2002 من "مجلة السياسات العامة" الأميركية كتب روبرت كاغان مقالاً طويلاً بعنوان "القوة والضعف" وذكر صراحة منذ السطور الأولى أن ثمة اختلافات جذرية بين أميركا وأوروبا، وأنه حان الوقت لأن نكف عن التظاهر بأن الأوروبيين والأميركيين يشتركون في رؤية واحدة عامة إلى العالم أو أنهم يحتلون المكانة نفسها في هذا العالم. ففي كل المشكلات المهمة المتعلقة بالقوة - أي فاعلية القوة وأخلاقياتها وضرورة ممارستها - تتباعد النظرتان، خصوصاً أن أوروبا أصبحت تتحرك الآن في مجال "ما وراء القوة" وتتطلع إلى عالم تحكمه القوانين والمواثيق والمبادئ والمفاوضات، وأنه في الوقت الذي تعمل أميركا على زيادة قدراتها العسكرية للاستعانة بها في إقرار السلام والديموقراطية في العالم تعمل أوروبا على الالتفاف على هذا الاتجاه بدعوى الرغبة في تحقيق التعاون الدولي. وبينما تتجه أوروبا الى التخلص من أدران التاريخ والى تحقيق ما يسميه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط "السلام الأبدي"، تجد أميركا نفسها غارقة تماماً في التاريخ ومشغولة بأحداثه الواقعية، ولذا تميل إلى ممارسة القوة واستخدامها في ما يسميه الفيلسوف البريطاني توماس هوبز "العالم الفوضوي" الذي لا يجدي معه الاعتماد على القوانين والمبادئ الدولية، إذ لا تزال أمور الأمن والدفاع وتقدم النظام الليبرالي في أشد الحاجة إلى امتلاك القوة العسكرية واستخدامها. والخلافات التي تشوب العلاقات الأورو- أميركية ليست أموراً عابرة أو سطحية وإنما هي خلافات جوهرية ومتراكمة وذات جذور عميقة والأغلب - في رأي كاغان - أنها ستستمر في المستقبل وتؤدي إلى مزيد من التباعد في المسائل المتعلقة بالأولويات القومية والأخطار التي تهدد العالم وتقدير التحديات وتشكيل السياسات الخارجية عموماً ووسائل الدفاع خصوصاً. ويعترف كاغان بأن الأوروبيين أكثر إدراكاً وفهماً لهذه الفوارق والاختلافات المتراكمة والمتزايدة، وأن الكثيرين من المثقفين في أوروبا أصبحوا يسلمون بعدم وجود أرضية مشتركة بين الطرفين في ما يتعلق بما يسميه "الثقافة الاستراتيجية"، إذ يرى الأوروبيون أن الأميركيين يعتنقون ما يطلق عليه اسم "ثقافة الموت" التي تنعكس بوضوح وجلاء في "المزاج العدواني" الذي يسود مجتمع العنف في أميركا والذي يدفع الدولة إلى المسارعة بالالتجاء إلى القوة وعدم المبالاة - على الأقل بالدرجة نفسها التي نجدها في أوروبا - بانتهاج سبيل الديبلوماسية الهادئة. فالعالم ينقسم في نظر أميركا إلى خير وشر وإلى أصدقاء وأعداء من دون أن يكون هناك حد وسط، وذلك بعكس الأوروبيين الذين لديهم تصورات أكثر تعقيداً عن العالم. ولذا فإنه حين تواجه أميركا بعض المشكلات الصعبة والمعقدة تعمد إلى سياسة القهر بدلاً من الإقناع، وإلى فرض العقوبات بدلاً من محاولة النصح والإصلاح، أي أنها تفضل سياسة العصا على سياسة الجزرة، وذلك فضلاً عن الميول الأحادية في الشؤون الدولية التي تدفع إلى عدم الاهتمام بالرأي العالمي وعدم التعاون مع الدول الأخرى لتحقيق المصلحة العامة وهي أمور لا نجدها في أوروبا. لكن الثقافة الاستراتيجية السلمية التي تتمسك بها أوروبا الآن هي تغير حديث نسبياً إذ سبقتها قرون من الصراعات والحروب الداخلية والخارجية في عصر الاستعمار الأوروبي لمناطق وشعوب كثيرة في العالم، وذلك في وقت كانت أميركا أكثر ميلاً لحياة السلم والمسالمة. فعلى رغم ما رافق نشأة الولاياتالمتحدة من أعمال عنف وقتل ضد الشعوب والجماعات الضعيفة على القارة الأميركية ذاتها لم تكن لديها قوة تؤهلها للصدام مع الإمبراطوريات الأوروبية القوية. ولم يلبث الوضع أن تغير مع الحربين العالميتين في القرن العشرين وتبادلت أوروبا وأميركا المواقف والرؤى نحو العالم، بعد أن انتقلت موازين القوة من أوروبا إلى أميركا نتيجة لضعف أوروبا عسكرياً وحربياً. وكان من الطبيعي - في رأي كاغان - أن تسلك أميركا القوية الطريق الذي كانت تسير فيه أوروبا أيام قوتها، بينما تنظر أوروبا إلى العالم من خلال عيون الضعف والضعفاء. وبدأت علامات الضعف تدب في الكيان الأوروبي منذ وقت طويل لكنها تمكنت منه تماماً بعد الحرب العالمية الثانية حين فقدت أوروبا كل مستعمراتها في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، ولم تعد قادرة على الدفاع حتى عن نفسها إلا ريثما تصل أميركا لإنقاذها. ثم فقدت أهميتها الاستراتيجية تماماً بانتهاء الحرب الباردة، وإن كان بعض الأحداث مثل حروب البلقان عمل على إخفاء ذلك الضعف والتقهقر، لكن الحقيقة هي أن كل ما يمكن أن تسهم به أوروبا الآن هو المحافظة على السلام بعد انتهاء العمليات الحربية. * أنثروبولوجي مصري.