جلست سيدة في الستين من العمر إلى جانبي في قطار الأنفاق في رحلة من قلب لندن إلى المطار قبل أسابيع. ومن لحظة الجلوس والسيدة ذات الملامح الطيبة والكاريبية السمراء تتحين الفرصة للحديث وأنا أتشاغل عنها بقراءة كتاب وصحف تمنيت أن أنهيها قبل أن أصل المطار. تحدثتْ عن أشياء كثيرة وأنا أبتسم وأهز رأسي بخيلاً في الرد ومتأملا أن تصل رسالتي للسيدة الحكواتية. ثم فجأة قالت لي بأنها مسافرة إلى إسرائيل مع مجموعة أخرى من كنيستها المحلية للاحتفال بمرور 60 عاماً"على منح الرب أرض إسرائيل لليهود". وعندما أعطيت السيدة اهتمامي مندهشاً من حديثها وحماسها لإسرائيل، تابعت حديثها بشغف وسذاجة تصف لي كيف أن اليهود بعد مئات السنين من التشرد جمعهم الرب في الأرض المقدسة، وهذا بحد ذاته"معجزة"حقيقية تستلزم الإيمان والزيارة والاحتفال. سألتها إن كان هناك كثيرون وكثيرات يعتقدون مثلها في منطقتها اللندنية ذات الكثافة الكاريبية، فقالت إن هذا هو الاعتقاد السائد على الأقل في اوساط الكنيسة المحلية. ثم سألتني إن كنت مؤمناً وما هو رأيي بهذه"المعجزة". طويت كتابي وصحفي وقد استفزتني سذاجة هذه السيدة، وقلت لها إن ما قالته بالحرف الواحد هو ما يزعزع إيمان أعتى المؤمنين. وسألتها في المقابل إن كانت ترى الرب قابلاً لفكرة سرق وتقتيل وتشريد شعب كامل مقابل جلب اليهود من كل بقاع العالم وإحلالهم مكان شعب آخر؟ ثم أضفت لها: أنا من بيت لحم مدينة السيد المسيح الذي ستزورينه، ومنها ومع عائلتي طُردت حتى يأتي اليهود من كل العالم، فأنت يا سيدتي تذهبين إلى هناك لتحتفلي بنكبتي وتشريدي. مع وصولنا للمطار كانت السيدة تبكي وباتت مترددة في الذهاب، وقالت معتذرة إنها رغم زيارتها الخامسة لإسرائيل فإنها لم تسمع عن تشريد خمسة ملايين فلسطيني، وأن برامج الزيارات الجماعية التي تُنظم بالتعاون مع جهات إسرائيلية لا تتضمن رؤية الفلسطينيين أو زيارة أي مدينة أو قرية أو منظمة فلسطينية! قصة سذاجة السيدة بطيبتها العفوية ليست سوى تعبير بسيط عن نجاحات السردية الإسرائيلية ليس فقط في خلق أسطورة"العودة إلى أرض الميعاد"، بل أيضاً في إسكات الحد الأدنى من السردية الثانية. والشيء المقلق والمحبط في نجاح تلك السردية هو اختراقها لأمزجة وقناعات دينية مسيحية تخلط بين أقانيم إيمانها وتطلعاتها المسيحانية الأخروية بإسرائيل وبشكل آلي. وفي اللحظة الراهنة فإن نجاحات السرد الصهيوني لقيام إسرائيل وتغليفه بالدين، أو بالسياسة أو بالمعجزة أو بالثقافة أو حتى بالاشتراكية، بحسب الظرف وإمكانية التوظيف، تأخذ أبعاداً إضافية مع الهوس الطافح في الأوساط الإسرائيلية والصهيونية المؤيدة لإسرائيل في العالم احتفالاً بالذكرى الستين لقيام الدولة العبرية. قيام إسرائيل يُصوّر على أنه معجزة خارقة ويُشطب من"حيثياتها"البُعد الكارثي ليس على الشعب المقيم في الأرض التي"يهبها الرب لشعبه المختار"، بل على قيام بيئة متوترة مولدة لحروب وصراعات بدأت من ستين عاماً ولا يعرف أحد حتى الآن متى تنتهي. وفي الوقت نفسه فإن هذه"المعجزة"مهددة بخطر أمني كبير من جانب أعدائها الفلسطينيين الذين يتربصون لإبادتها... من غزة! لكن ورغم طغيان السردية الإسرائيلية الكبرى في الفضاء الغربي العام وتواطؤ الرسميات الغربية معها بشكل مغيظ ومنفر، ثمة كثيرون ممن يتشبثون بمسطرة العدل والضمير والأخلاق ويقيسون بها صلف إسرائيل وجبروتها و... يرفضونها. ومن هؤلاء قائمة طويلة تنتزع الاحترام من اليهود البريطانيين والغربيين الذين وقعوا على مقالة جماعية نشرتها صحيفة"الغارديان"البريطانية بهذه المناسبة، في 30 نيسان ابريل الماضي بعنوان"لن نحتفل بالذكرى الستين لإسرائيل". والقائمة التي وقع عليها أكثر من 110 أشخاص تتضمن مفكرين مستنيرين وليبراليين، وأكاديميين معروفين، ونشطاء سياسيين، وعلماء، وكتاباً، ومبدعين فازوا بجائزة نوبل مثل هارولد بنتر، وهي بكل الأحوال قائمة مدهشة جداً. يقول هؤلاء في نص بالغ الوضوح وعالي الإخلاقية:"في شهر ايار مايو ستحتفل المنظمات اليهودية بالذكرى الستين لتأسيس دولة إسرائيل. وهذا مفهوم في سياق قرون من الاضطهاد تُوجت بالهولوكوست المحرقة. ومع ذلك فنحن الموقعين أدناه مجموعة من اليهود الذين لن يحتفلوا بهذه المناسبة. ومن المؤكد أن الوقت الآن هو للاعتراف بسردية الآخر: الثمن الذي دفعه شعب آخر نتيجة اللاسامية الأوروبية وسياسات هتلر الإبادية. فكما قال إدوارد سعيد إن ما هو هولوكوست لليهود هو النكبة للفلسطينيين. في نيسان 1948، الشهر الذي شهد مجزرة دير ياسين السيئة الصيت والهجوم على المدنيين الفلسطينيين في ساحة سوق حيفا، وضعت"خطة دلتا"قيد التنفيذ. والتي بموجبها شُرع بتدمير القرى الفلسطينية وطرد السكان الأصليين خارج حدود الدولة. لهذا فإننا لن نحتفل!". يستحق الموقعون على مثل هذا النص كل التقدير لأنه من المرات النادرة التي يُربط فيها بشكل واضح وغير متردد بين"الهولوكوست"الذي تعرض له اليهود ونكبة الفلسطينيين، ويُشار إلى أن الفلسطينيين دفعوا ويدفعون ثمن جريمة أوروبية متوحشة. ثم يتابع الموقعون قائلين:"وفي تموز يوليو 1948 طُرد أكثر من سبعين ألف فلسطيني من بيوتهم في اللد والرملة في حر الصيف الشديد من دون ماء أو غذاء، وقد مات من هؤلاء المئات، فيما سُميت"مسيرة الموت". ولهذا فإننا لن نحتفل. وفي المجمل فإن سبعمئة وخمسين ألف فلسطيني أصبحوا لاجئين، و400 قرية تقريباً أزيلت عن الخارطة. ولم يُوقف كل ذلك الإبادة الإثنية التي استمرت، بل إن آلاف الفلسطينيين مواطنون إسرائيليون طردوا من الجليل في 1956، وأكثر من ذلك بكثير عندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة. وبحسب القانون الدولي وقرار الأممالمتحدة رقم 194 فإن للاجئين بسبب تلك الحرب حق العودة أو التعويض. لكن إسرائيل لم تقبل أبداً بذلك الحق. لهذا فإننا لن نحتفل. إننا لا نستطيع أن نحتفل بولادة دولة تأسست على الإرهاب والمجازر، وطرد شعب آخر من أرضه. لا نستطيع الاحتفال بولادة دولة ما زالت حتى الآن تمارس الإبادة الإثنية، وتنتهك القانون الدولي، وتفرض عقاباً جماعياً وحشياً على المدنيين في غزة، وتواصل إنكار الحقوق الإنسانية للفلسطينيين وطموحاتهم الوطنية. إننا سوف نحتفل عندما يعيش العربي واليهودي متساويين في شرق أوسط يعمه السلام". هناك أهميات قصوى متعددة لهذه الصرخة الجماعية الصادرة عن يهود كبار ينظرون إلى الكارثة والنكبة التي حلت بالفلسطينيين من منظور ضميري وإنساني منصف. أولها أن هذا الخطاب الواضح والذي يبتعد عن الجُبن الملازم لمقاربات كثير من الغربيين للمسألة الفلسطينية يأتي من أصوات يهودية ذات وزن كبير ومواقع تفرض الاحترام على الآخرين. كما لا يمكن اتهام هؤلاء اليهود بتبني موقف"لا سامي"ضد اليهود، كما هي اللازمة والتهمة الجاهزة لإلصاقها بكل من ينتقد إسرائيل. ومثل هذا الموقف الشجاع ربما يساهم في دفع كثيرين في الغرب الى تبني الموقف ذاته، وعلى ذات الأرضية. بيد أن ثمة أهمية أخرى لهذا الموقف يمكن رؤيتها من زاوية الخطابات العربية السائدة في اللحظة الراهنة تجاه اليهود وإسرائيل والصهيونية. فهذه الخطابات تمثل طيفاً يشمل رؤىً تبدأ من أكثرها عمقاً وإنسانية حيث التفريق الأولي والحتمي بين اليهودية من جهة والصهيونية وإسرائيل من جهة ثانية، وتصل إلى أقصى رؤى التطرف والعنصرية حيث الخلط السخيف والأهوج "القاعدي"على وجه التحديد بين اليهودي والصهيوني. لقد صار الوقت ملحاً أكثر للانتهاء من قصة هذا الخلط الساذج واعتبار كل يهودي عدواً بالتعريف، ولعل جزءاً من المسؤولية الكبيرة يقع على عاتق المؤسسة الدينية والتعليمية بشكل أساسي. وفي هذا السياق تكون الفائدة الأهم ربما في كل أفكار الحوارات المطروحة بين الأديان، في كسر هذا الموقف النفسي المعيق وإعادة الاعتبار الى إنسانية الخطاب العربي والإسلامي. فعندما يلتقي مثلاً حاخامون يعلنون عداءهم للصهيونية باعتبارها حركة اعتداء شوفينية عنصرية مع الشيخ يوسف القرضاوي كما نقلت"الحياة"في عدد 1 ايار/مايو فإن هذا اللقاء يجب أن يحظى بتغطية إعلامية واسعة حتى يطور من النظرة الشعبية والجماعية إزاء اليهودية كدين والصهيونية كقومية معتدية وإسرائيل كنتاج لتلك القومية. وفي المبتدأ والمنتهى يجب التأكيد دوماً على أن الصراع مع إسرائيل هو صراع أرض ومصالح وقوميات وليس صراع أديان وعقائد. * كاتب واكاديمي اردني - فلسطيني