إذا كانت القدس تاج فلسطين، فإن الخليل هي النجمة التي ترصع ذلك التاج. هكذا قيل عن مدينة الخليل التاريخية الجميلة الواقعة على جبل الرميدة وجبل الرأس جنوب غربي الضفة الغربية، والتي تبعد 37 كلم عن مدينة القدس، وتمتاز بخصوبة الأرض ووفرة حقول الفاكهة، لا سيما العنب"الخليلي"ذي الطعم الفريد. الخليل هي ثاني أكبر مدن الضفة الغربية، وكبرى مدن الجنوب، والمدينة الوحيدة التي تنغرس في قلبها مستوطنات يهودية. تنتشر المستوطنات في البلدة القديمة للمدينة، التي كانت يوماً المركز التجاري للضفة، ومنطقة سكنية نابضة بالحياة، ولكنها الآن"بلدة أشباح". دمر الاحتلال الإسرائيلي نسيج الحياة فيها، عبر سلسلة من الإجراءات الوحشية كمصادرة الأراضي وحظر التجوال لمدد طويلة وتقييد الحركة وممارسة العنف بشكل يومي ضد المواطنين الفلسطينيين. في مطلع هذا العام ناقش الكاتب الأميركي ستيفن لندمن الأوضاع في مدينة الخليل في مقالة له بعنوان:"حال تاريخية من العزل، الطرد بالقوة، والإرهاب: القمع الإسرائيلي في الخليل"مجلة كاونتر بنش الإلكترونية، 28 كانون الثاني/ يناير 2008. استند لندمن إلى تقرير أصدره مركز بتسيلم الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأرض المحتلة في أيار مايو 2007، وحمل عنوان:"بلدة أشباح: سياسة العزل الإسرائيلية وطرد الفلسطينيين بالقوة من مركز الخليل". منذ احتلال المدينة عام 1967 طردت إسرائيل آلاف الساكنين والتجار من قلب المدينة، وقسمته إلى قسمين: شمالي وجنوبي، محدثة شريطاً طويلاً من الأرض للسيارات اليهودية فقط. وفي المناطق التي ظلت مفتوحة للفلسطينيين مارس جيش الاحتلال سياسات قمعية كحملات التفتيش والاعتقال، وتشجيع عنف المستوطنين، وهي سياسات ازدادت سوءاً بعد مذبحة المسجد الإبراهيمي في عام 1994، وآتت أكلها. يصف المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي ما جرى ويجري في الخليل بأنه"تطهير عرقي ممول من جانب الدولة ومستمر منذ وجود إسرائيل عام 1948". تم إخلاء 1700 منزل وسط المدينة، وأكثر من 1800 محل تجاري، وهدمت إسرائيل البيوت التي قررت أن تكون مكاناً للاستيطان. في منطقة شارع الشهداء أُغلق أكثر من 300 محل تجاري، وصادر الجيش محطة باصات وحولها إلى ثكنة عسكرية، وتوقفت عن العمل في المنطقة مراكز التموين والمعلومات والأوقاف وجمعيات المرأة والمزارعين والمراكز الطبية. تتحدث المنظمات الحقوقية عن ظاهرة الضرب المبرح لمواطني الخليل الذي يؤدي في أحيان كثيرة إلى الموت. تتضمن أشكال الضرب: تهشيم رأس الضحية بالحائط، أو بعقب البندقية، الرفس بقوة، لي الذراعين والساقين بعنف بهدف الإصابة، والرشق بالحجارة. تنتشر في الخليل ظاهرة الاستيلاء على منازل المواطنين، واتخاذها مراكز"أمنية"، وحصر أهلها في مساحات مخصصة لا يتجاوزونها. يقوم الجنود بتشغيل الموسيقى الصاخبة في المنزل، والتبول حيث شاؤوا، مظهرين أشكالاً مختلفة من الإذلال لسكان البيت. يصف لندمن معاناة الفلسطينيين في وسط الخليل أو الذاهبين إليه بأنها"كابوسية"، ويصف تقرير بتسيلم الإيذاء الإسرائيلي"المستمر والخطير للفلسطينيين"في وسط المدينة بأنه"أكثر تجليات انتهاك حقوق الإنسان تطرفاً"في إسرائيل. توجد في المنطقة أربع مستوطنات يسكنها 500 مستوطن يحظون بحماية 2000 جندي، وسط أكثر من مئة ألف فلسطيني من أهل المدينة. وتقول صحيفة"البيس"الاسبانية إن هذا العدد من الجنود لن يصبح ضرورياً نظراً إلى أن هذه المنطقة التي تتعرض"لتطهير عرقي وديني ستخلو قريباً من السكان العرب". وتضيف الصحيفة ان سوق الخليل التي تعود إلى قرون طويلة أصبحت الآن خالية، وان المرء يشعر وهو يتجول في الشوارع المحيطة المهجورة بأنه في قفر موحش، لا سيما أن واجهات المحال التجارية مهشمة، والجدران محفور عليها عبارات عنصرية مثل:"الموت للعرب". أكثر من 25000 مواطن تم إخلاؤهم من هذه المنطقة في غضون خمس سنوات، وفي حي تل الرميدة لم يتبق سوى 50 أسرة من أصل 500 عاشوا يوماً هناك نقلاً عن صحيفة"الإندبندنت"، 19 نيسان/ أبريل 2008. صحيفة"الإندبندنت"نشرت تقريرها الرئيس في 19 نيسان عن مأساة الخليل. نقلت الصحيفة اعترافات جندي إسرائيلي شارك في قمع أهل المدينة، لكنه حجب هويته خوفاً من المساءلة. من الممارسات اليومية للمستوطنين والجيش بحسب هذا الجندي: إيقاف سيارات الفلسطينيين وكسر نوافذها، الاعتداء على الركاب بالضرب في حال ردوا بأي كلمة مثل: نحن ذاهبون إلى المستشفى، سلب التبغ من دكان فلسطيني وضرب صاحبه إن اشتكى، ورمي المتفجرات داخل المساجد أثناء الصلاة. يقول الجندي إنه حصل مرة اشتباك عشائري فلسطيني داخلي، فقال لنا قائدنا:"أطلقوا النار على أي شخص ترونه مسلحاً بحجارة أو ما شاكلها". ويضيف الجندي أن إطلاق النار جعل الناس يظنون أنه ناتج من اختلاط الحابل بالنابل في هذا النزاع وليس صادراً عن الجنود. ويسأل مراسل"الإندبندنت"الجندي: هل أصبتهم؟ أجاب:"بالطبع، ليس أولئك الناس فقط، بل أي شيء اقترب منا.. لا سيما السيقان والسواعد، وبعض الناس أصيبوا في بطونهم". يتحدث الجندي عن اعتقال طفل في الخامسة عشرة متهم برشق الجنود بالحجارة، وتعرضه لضرب مبرح على يد القائد أو الضابط أفقده القدرة على الوقوف مؤكداً:"نحن نمارس هذه الأشياء كل يوم، لقد أصبحت عادة". ولما هرع الوالدان لإنقاذ ابنهما، ورآهما الضابط شحذ مسدسه ووضعه في فم الطفل وصاح بالوالدين:"إذا اقترب أحدكما سأقتله.. ليس لديّ رحمة". يشير ضابط إسرائيلي اسمه إفتاخ آربل إلى أن المستوطنين يعلّمون أطفالهم وهم في الرابعة من العمر أن"يرموا الفلسطينيين بالحجارة، ويهاجموا بيوتهم، ويسرقوا ممتلكاتهم". مستوطنو الخليل، في نظر أربل، هم"شر مطلق"، والحل الوحيد هو ترحيلهم. ويضيف:"كنا نقوم بنشاط ليلي. نختار منزلاً بطريقة عشوائية عبر التصوير الجوي، وفي منتصف الليل نقوم بإيقاظ شخص من نومه ونقلب منزله كله رأساً على عقب..". يقول أحد الجنود:"لقد عملنا كل أنواع التجارب لنرى من يكون الأفضل في التفريج بين ساقيه في حي أبو سنينة. كنا نلصق [الفلسطينيين] بالحائط، وكأننا نفتشهم، ثم نطلب منهم المباعدة بين سيقانهم.. لعبة [نمارسها] لنرى أفضل من يفعلها". يضيف الجندي:"أو كنا نختبر من يحبس تنفسه لأطول وقت.. يأتي شخص يبدو كما لو أنه يفتشهم، فيخنقهم.. يحبس مسالكهم الهوائية..". ماذا يصنع الجندي وهو يمارس عملية الخنق هذه؟ ينظر إلى ساعته حتى يغمى على الفلسطيني ويقع أرضاً،"الشخص الذي يأخذ أطول وقت قبل الإغماء هو الذي يفوز". يتحدث الجندي عن سلب المحال التجارية تحت التهديد، مثل محل بيع إكسسوارات سيارات درج الجنود على سلب الكثير منه، بما في ذلك مكبرات وأنظمة صوت متكاملة. حاول صاحب المحل أن يحصل منهم على مبلغ معقول في مقابل ما يأخذونه، لكنهم هددوه بمصادرة كل بضاعته، فاتفق معهم على أن يأخذوا عشرة أنظمة صوت كل شهر. صاحب المحل في حال مزرية كما يقول الجندي، ويوشك على الإفلاس. ظاهرة الاعتداءات المنهجية العنيفة ما تزال تنتشر في الخليل، وقد وثقت منظمة بتسيلم حالات من الضرب بالعصي والحجارة ورمي النفايات والرمل والكلور والزجاجات الفارغة، إضافة إلى إتلاف الحوانيت والأبواب وسلب محتوياتها، وقطع الأشجار المثمرة وإطلاق النار، ومحاولات الدهس، وإلقاء السموم في آبار الماء، وسكب المياه الساخنة على الوجوه. الحقيقة أن مدينة الخليل الوادعة الجميلة لم تعد كذلك، وهي تفقد نضارتها وسكونها في ظل عنف همجي تتزايد وتيرته، ولا تبدو له نهاية في الأفق. الخليل بين فكي كماشة"رهينة محبسين: الجيش والمستوطنين، وكلاهما يمثلان احتلالاً كولونيالياً إحلالياً يقوم على طرد السكان بكل الوسائل وتزوير التاريخ وإحداث حقائق على الأرض. تعاني الخليل بعد مرحلة الاغتصاب عام 1967 من مرارة الابتلاع والموت البطيء. ربما كانت التقارير الأخيرة هي قمة جبل الجليد، وما يجري على الأرض أقسى بكثير. صحيفة"الإندبندنت"وصفت العنف الإسرائيلي في الخليل بأنه"عهد الإرهاب". لكنه الإرهاب الذي لا يسمعه أحد، ولا يراه أحد. ترى هل ما زالت الخليل نجمة التاج الفلسطيني، أم أن النجمة تتلاشى بمرارة في أفق ملبد بالغيوم؟ * كاتب سعودي