الإعلام الأميركي والرأي العام الأميركي ليسا بريئين من "ثقافة الخداع" التي تحدث عنها الناطق السابق باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان، عند وصفه ذرائع ومبررات حرب العراق كما صنعتها واختلقتها واشنطن في عهد جورج دبليو بوش. الأخطر، أن الإعلام والرأي العام في انسياقهما وراء الغضب العارم من ممارسات الأمس في العراق يتجنبان التدقيق الضروري في افرازات تلك الحرب التي غضا النظر عنها ثم قررا الاستفاقة إلى سوئها أخيراً في موجة الكراهية لجورج دبليو بوش والاختباء وراءها. قادة الإعلام يقولون إن الرأي العام غير راغب في معرفة كل ما لا يدخل في خانة تسليته، وأنه ليس مهتماً بما يحدث خارج بوتقته المباشرة، ولذلك تحوّلت نشرات الأخبار بعيداً عن"الشؤون الخارجية"، بما فيها ما أسفرت عنه حرب العراق وما من شأنه أن يؤدي فعلاً إلى إعادة الجنود الأميركيين إلى أهلهم. والرأي العام الأميركي يبدو مرتاحاً في جهله، يدفن رأسه في الرمال، يكتفي بالتسلية، يطالب بإنهاء حرب العراق، رافضاً التعرف إلى كيف ولماذا وماذا بعد. فلا توجد أدنى درجات الاهتمام بما قيل بأنه كان سبباً وراء حرب العراق وماذا جرى له. والمقصود هو ما زُعم بأنه انتفاضة أميركية من أجل نشر الديموقراطية والحرية في العالم العربي. ولا يوجد أي تساؤل يُذكر سوى من قبل المنظمات والمؤسسات المهنية حول التجاوزات لحقوق الإنسان وللقوانين بذريعة صدمة إرهاب 11 أيلول سبتمبر 2001. وحتى عندما يتعلق الأمر بالمستفيدين الكبيرين من حرب العراق - إيران وإسرائيل - وماذا تفعلان بهذه الاستفادة الكبرى وكيف تتفاعل مصالحهما مع المصلحة الأميركية العليا، هناك صمت أو لامبالاة رهيبة لدى الإعلام والرأي العام الاميركيين يثيران الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام. وقد حان وقت طرح هذه الأمور على طاولة النقاش لأن ما تنطوي عليه فيه الكثير من الغرابة والخطورة. فالمصارحة ضرورية في هذا المنعطف قبل ارتكاب المزيد من الأخطاء. إنها اساسية لأن الاستمرار في دفن الرؤوس في الرمال مكلف للولايات المتحدة وللعالم. انصباب المؤسسات الإعلامية، لا سيما التلفزيونية، على ما فاتها التدقيق فيه - عمداً أو سهواً - أثناء العد العكسي إلى حرب العراق هو هروب إلى الأمام بات مسيئاً فوق العادة ويجب الآن ايقافه. كفى استهانة بذكاء الناس وكفى تظاهراً بالموضوعية والمهنية المتفوقة. فواجب الإعلام الأميركي ألا يستفيض الآن فقط في وصف وتشخيص ما حدث وهو في غفوة أو خوف أو نفي للواقع أو تظاهر أو غطرسة. واجبه أن يستوعب فعلاً افرازات هذه الحرب ليثقف الرأي العام ويضع أمامه خياراته مهما كانت صعبة الفهم أو خارج نطاق"التسلية". ففي اليوم ذاته - مثلاً - الذي كان الإعلام الأميركي يسبح كعادته، جماعة، في"طبق"اليوم ويجعل من كتاب سكوت ماكليلان"اكتشافاً"لا مثيل له عن"ثقافة الخداع"في واشنطن، كان كبير المفاوضين الإيرانيين السابق في الملف النووي والذي تم انتخابه يوم الأربعاء رئيساً لمجلس الشورى علي لاريجاني يوجه تحذيراً. كان يحذر الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي لطالما أعطت إيران فرصاً عدة، ويحذر الدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن التي قدمت لطهران حوافز مغرية شرط مجرد"تعليق"تخصيب اليورانيوم. تحذيره كان من عواقب ما سماه ب"المراوغة السياسية"لمجرد أن الوكالة الدولية أبدت مخاوف من احتمال مواصلة إيران اخفاء المعلومات حول دراسات متعلقة بالأسلحة النووية. الإعلام الأميركي تجاهل تقريباً كلام لاريجاني حول مستقبل أسلحة الدمار الشامل فيما استرسل بإسهاب في ماضي أسلحة الدمار الشامل في العراق. إنه الإعلام ذاته الذي رفض ويرفض قطعاً التطرق إلى أسلحة الدمار الشامل في حوزة إسرائيل، وكأن من يذكر ذلك السلاح يتجاوز الخطوط الحمر التي فرضها الإعلام الأميركي على تغطيته مسألة أسلحة الدمار الشامل وفرضتها المؤسسات الفكرية الأميركية عند طرح هذه المسألة. وفي هذا الأمر الكثير من العنصرية المبطنة. بكلام آخر، بدلاً من درس للإعلام والرأي العام من تجربة العراق ليكون هناك اصرار على الاستفهام والتدقيق والتساؤل والمطالبة بالايضاح، هناك تكرار لأنماط اللاتساؤل واللاتدقيق واللااستفهام. والأسوأ أن الحجة هي التركيز على خطايا بوش والخداع الذي رافق إدارته. ثقافة الخداع اثناء العد العكسي إلى حرب العراق كانت واضحة للجميع، من سياسيين وإعلاميين ورأي عام. ومَن يزعم غير ذلك ينتمي إلى أحد معسكرين: معسكر الذين دفنوا الرؤوس في الرمال واختاروا ألاّ يسمعوا أو ينظروا أو يفكروا، أو معسكر المتغطرسين الجهلاء الذين يربضون في كواليس الكسل ويمضغون التعالي وهم في أدنى الدرجات. بالطبع هذا يستثني طبقة صانعي حرب العراق بتلك الذرائع والمبررات الزئبقية والذين كانوا يعرفون ماذا يفعلون مهما تظاهروا اليوم بغير ذلك. أسهل الحلقات في تلك المبررات كانت حقاً حلقة اسلحة الدمار الشامل. ولذلك، لا كتاب سكوت ماكليلان بعنوان"ماذا حدث... داخل البيت الأبيض في فترة بوش وثقافة الخداع في واشنطن"، ولا غيره من الكتب المتتالية مقنع في مزاعمه بأنه ضحية تسويق لحرب العراق. فتسويق حرب العراق على أساس امتلاكه اسلحة الدمار الشامل كان تسويقاً بثغرات يمكن لشاحنات كبرى أن تعبرها. فالكل كان يعرف - والرئيس السابق بيل كلينتون كان يعرف - وهو قالها صراحة إنه تم تجريد العراق من اسلحة الدمار الشامل بدرجة كبرى عبر لجان الأممالمتحدة المعنية، وان ما تبقى كان حول تساؤلات ووثائق عن برامج سابقة للعراق وليس ابداً عن أسلحة دمار شامل جاهزة في ترسانة. من يزعم عكس ذلك من الخبراء إنما يخدع نفسه والعالم تكراراً. فلقد كان واضحاً عند الإعداد لحرب العراق أنه لم يكن يمتلك أي أسلحة دمار شامل ذات معنى أو أهمية بما يستحق حرباً على العراق لتجريده من السلاح. كان واضحاً لأي عالم بشؤون منطقة الشرق الأوسط والسياسة الأميركية نحو تلك المنطقة أن قرار شن الحرب على العراق اتخذ فور إرهاب 11/9/2001 لأن العراق كان مرشحاً لحرب المحافظين الجدد أساساً لأسباب ذات علاقة بإسرائيل وإيران وضمان تفوقهما في المنطقة كرهاً بالعرب. ذلك الادعاء بأن حرب العراق كانت لأسباب ذات علاقة بنشر الديموقراطية قد يكون أكبر خدعة وقعت فيها الولاياتالمتحدة شعباً ورئيساً. لربما كان جورج دبليو بوش مقتنعاً تماماً، في ذهنه وعقله وقلبه، أن تلك كانت حرب الحرية والديموقراطية. ولربما اقنع نفسه بنفسه بذلك. واقع الأمر ان ذلك التغيير الذي ارادته زمرة المحافظين الجدد - والتي تبناها جورج دبليو بوش - كان الفوضى والتقسيم والشرذمة. مخطئ جداً من يقول ان ما حدث في العراق كان سلسلة أخطاء متتالية، بدءاً من أسباب الحرب مروراً بطريقة تنفيذها وصولاً الى توظيف القوات الأميركية في خدمة انشاء عراق موال لإيران. مخطئ من يظن ان الديموقراطية والاعتدال كانا هدفين اساسيين لفلسفة بوش الثاني في منطقة الشرق الأوسط. فلو كان الأمر كذلك لكان جورج بوش، المعروف بعناده وإصراره على ما يؤمن به، رافضاً رفضاً قاطعاً ما حدث في ملف لبنان الذي وقع في أحضان الديبلوماسية القطرية، ولكان عارض ما حدث في احتضان الديبلوماسية التركية من تجاذب سوري - اسرائيلي على ركبتي أركان الديبلوماسية التركية في الوقت الذي كان يتعهد فيه الرئيس الاميركي بعزل سورية عقاباً لها على تجاوزاتها في العراقولبنان. ما حدث للولايات المتحدة الأميركية على أيدي إدارة جورج بوش في الاسابيع الثلاثة الماضية يكاد ينفي نفياً قاطعاً تلك المزاعم البائسة بأن قضية العراق تمثل الرأفة الاميركية بقضية الديموقراطية والحرية. فلقد اسقطت إدارة جورج بوش آخر أسباب الثقة بها وبالولاياتالمتحدة. سقطت الثقة وليس فقط السمعة المستعارة. فلقد كان في ملف لبنان ما من شأنه ان ينقذ السمعة والسيرة التي تركها جورج بوش في العراق. كان في وسعه ان يعوض وان يصحح انطباع الفشل في لبنان، كما الفشل في العراق، للأسباب نفسها وهي السقوط الدائم لأي رئيس أو مرشح للرئاسة الأميركية بين مخالب الأولويات الاسرائيلية الممتدة حتى على حساب المصلحة الأميركية، والمشكلة هي انه حالما يأتي الحديث على ذكر اسرائيل، ينقبض الإعلام الأميركي على نفسه ويصبح مساهماً مؤذياً للمصلحة الوطنية الأميركية. أما الرأي العام فإنه يسقط في دوامة الجهل التي يوقع نفسه فيها لأنه لو اختار، قادر جداً على الاستيعاب وعلى صنع القرارات الضرورية لمستقبل البلاد. لكنه يشاء الا يختار ويختار ألا يشاء ان يكون فاعلاً. وفي هذا مشكلة كبرى. فليس ممكناً على الإطلاق المعالجة الحقيقية لكيفية الخروج من العراق من دون التعاطي مع التحدي الإيراني النووي والاقليمي ومن دون الأخذ في الحساب ان ايران دولة قادرة على الهيمنة بفضل حرب ادارة بوش في العراق. ليس واقعياً ولا منطقياً التحدث عن الانسحاب من العراق من دون التفكير الجدي في معنى ترك الانطباع - ليس لدى العاديين وانما لدى المتطرفين من اسلاميين وغيرهم - بأن الولاياتالمتحدة جاهزة للتقهقر أمام الخوف من نفسها ومن الآخرين. حرب العراق فرضت وقائع جديدة على منطقة الشرق الأوسط جعلت اسرائيل اكثر قدرة على تجنب السلام لأنها لا تخشى أي معادلة عسكرية بعدما تم حذف العراق من تلك المعادلة. وهذا جعل اسرائيل اقل إقداماً حقاً على صنع السلام مع الفلسطينيين بغض النظر عن أقاويل صنع السلام بينها وبين سورية عبر تركيا. حرب العراق عززت نزعة الهيمنة لدى قادة الجمهورية الاسلامية ومكنتهم من العمل على نشر تلك الثورة الايرانية التي حالت دون توسعها حرب أخرى قام بها العراق، وهي حرب الثمانينات حين كان الرئيس العراقي السابق صدام حسين صديقاً وشريكاً للولايات المتحدة ضد ايران. حرب العراق نجحت في تخليص العراقيين من الطاغية صدام حسين الذي بطش ولم يكن في الوسع التخلص منه، ربما، سوى عبر القوات العسكرية الاميركية. لكن اسقاط الطاغية لم يتحول الى كابوس يقيد أحلام أمثاله من قادة الشرق الأوسط وبقية العالم، ولم يصبح مصيره نموذجاً لمصير آخرين من أمثاله، بل العكس في بعض الحالات كان صحيحاً. وبالتالي انه فشل آخر في سلسلة مزاعم ومبررات وحجج حرب العراق الزئبقية. لعل الوقت حان للأميركيين قبل غيرهم ان يخوضوا فعلاً في تمرين ضروري هو الإجابة على سؤال بديهي هو: لماذا كانت حقاً حرب العراق وماذا كانت أهدافها؟ عند الخوض في هذا التمرين الصعب يمكن للأميركيين والعالم ربما ان يفهموا ليس فقط ماذا حدث بالامس، وانما ايضاً الى اين الآن وغداً. هل كانت هذه الحرب المدمرة للعراق، حقاً، وبكل بساطة، للأسباب التي رددها جورج بوش تكراراً بقوله انها من أجل إبعاد الارهاب عن الاراضي الاميركية وخوض الحرب على من يقفون وراء هذه الاعمال في أماكن بعيدة كالعراق وافغانستان؟ فإذا كان ذلك حقاً ما حدث، ربما يقرر الأميركيون اما التوجه بعميق الشكر لرئيسهم لأن الارهاب تم إبعاده عن مدنهم وبيوتهم، ولأن جورج بوش تركهم في غنى عن الانخراط في مآسي العالم ومكنهم من الاستمرار في لهو التسلية، أو يمكن للاميركيين ان يغضبوا كثيراً من رئيسهم لأنهم يرفضون مبدأ استخدام الآخرين - في العراق أو غيره - سلعة في حروب ابعاد الأذى عن الأميركيين وهم يدفنون رؤوسهم في الرمال وينفون ان السياسات الاميركية هي جزء من الاسباب الكامنة وراء التوجه الى الارهاب ومن تمكين التطرف من تحقيق انتصارات تلو الانتصارات. التخلص من ثقافة الخداع يتطلب التوقف عن خداع النفس وليس فقط الاحتجاج على تبني السياسيين في واشنطن تلك الثقافة. معظم الاعلام الاميركي بات كسولاً ومتعجرفاً وقد أصبح جزءاً خطيراً من ثقافة الخداع وهو يختبئ وراء ما يعتبره إدمان الشعب الاميركي على التسلية ويرفض تحمل مسؤولية أخلاقية مهنة الاعلام. بالتأكيد، هناك العديد من بيوت الزجاج في الاعلام العربي والشرق أوسطي، ولا داعي للتظاهر بأي تفوق على الاعلام الأميركي، لا سيما ان مرتزقة الاعلام العربي يتوسعون ومنهم من اكتشفوا في مبنى الأممالمتحدة حائطاً يلطون وراءه وهم يمارسون اساليب التخلص السري من عقد النقص والعمالة. هذا الواقع لا يخفي ولا ينفي الواقع البائس لجزء كبير من مؤسسات الاعلام الاميركية. واضح ان هناك استثناءات عدة ومهمة ومميزة عند الحديث عن الاعلام الاميركي وعن الرأي العام الأميركي وهي تشكل العمود الفقري لهذه الدولة المتفردة بمنصب العظمة عالمياً. واضح ايضاً ان الحكم النهائي على حرب العراق ليس في متناول اليوم وانما هو قيد الفرز في التاريخ المعاصر. المسؤولية الاخلاقية والمهنية تتطلب من الجميع عدم التوقف على ابواب الكراهية لجورج بوش وأقطاب إدارته والغضب من حرب العراق وثقافة الخداع في واشنطن. المسؤولية تقتضي التفكير المعمق ليس فقط في الاسباب الحقيقية لحرب العراق وكيفية اخراج الأميركي منها وانما ايضاً في معنى فض الايدي من الأوضاع التي خلقتها حرب العراق في موازين القوى وموازين الرعب الجديدة.