طرح اعتراف الرئيس الأمريكي بوش بالكذب فيما يخص واقعة "أسلحة الدمار الشامل" التي بنى على أساسها غزو العراق فرصة ذهبية لطرح سؤال: هل يمكن أن نحاكم جورج بوش كمجرم حرب، على الأقل بعد انتهاء ولايته في يناير المقبل؟. الحقيقة أنه رغم أهمية هذه القضية، فقد طغى الحديث في الأوساط العربية حول "حذاء" الصحفي العراقي "منتظر الزيدي" الذي ألقاه في وجه بوش بسبب تدمير أمريكا للعراق، وتوارى حديث "المحاكمة" مع أنه هو الأهم.. لماذا؟. أولا: لأن بوش اعترف مرتين هذا الشهر "ديسمبر" بأنه كذب بشأن معلومات غزو العراق، وكذب حينما ربط الرئيس العراقي السابق صدام حسين بتنظيم القاعدة كي يبرر الاجتياح وإنهاء حكمه، ما يعني أنه مسئول عن دماء مليون عراقي قتلوا،وثانيا: لأن مجلس الأمن رفض في عام 2005 تجديد الإعفاء الممنوح سنويا – بقرار دولي – لجنود وقادة أمريكا من المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وثالثا: لأن مبررات طلب اعتقال الرئيس البشير ومحاكمته رغم أن بلاده ليست عضوا في المحكمة تنطبق بصورة أكثر دقة على الرئيس بوش الذي اعترف بجرمه عكس البشير!.ومع أن أحدا من الدول العربية لم يستغل اعتراف بوش بالكذب في جريمة حرب العراق وتدميره ولو على سبيل المقايضة مع حالة السودان والرئيس البشير، فقد بادرت إيران لانتهاز الفرصة وطرح فكرة تقديم الرئيس الأمريكي الحالي كمجرم حرب، وذلك في بيان أصدرته وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامية منتصف ديسمبر الجاري، قالت فيه "يجب تقديم بوش كمجرم حرب في المحاكم الدولية المختصة بسبب الجرائم المروعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكي في العراق وأفغانستان وفي معتقلات جوانتانامو وأبو غريب وسائر المناطق الأخرى في العالم"، وهذا بالطبع إضافة إلى دعمه لإسرائيل في عدوانها علي الفلسطينيين وتقديم السلاح والدعم السياسي والأممي "الفيتو" لها. اعترافان.. لا واحد وعلى طريقة القضاء نبدأ أولا في سرد الاتهامات الموجهة للرئيس بوش من واقع اعترافه شخصيا واعتراف رسميين آخرين: 1- في يوم 2 ديسمبر الجاري وفي لقاء مع قناة "A.B.C"، اعترف بوش – الذي أصبح معروفا في أوساط منتديات الإنترنت باسم "جورج دبيلو شوز" عقب واقعة الحذاء الشهيرة - بأنه كذب بشأن المعلومات التي روجتها إدارته لتبرير غزو العراق وادعاء أنه يمتلك أسلحة دمار شامل متزرعا بأن مخابراته أخطأت، 2- في 6 ديسمبر الماضي، وفي كلمة بعث بها لمركز "سابان" لدراسات الشرق الأوسط بمؤسسة بروكينجز، اعترف بوش للمرة الثانية أنه كذب بشأن ما سبق أن روجه هو بنفسه عن صلة الرئيس العراقي صدام حسين بهجمات 11 سبتمبر 2001، ونفى أكاذيب سبق أن قالها هو عن علاقة صدام حسين بتنظيم القاعدة, ولكنه أصر - رغم الاعتراف - أن "قرار الإطاحة به لا يمكن عزله عما حصل في الهجمات"، 3- اعترف العديد من أركان حكم بوش الذين قدموا استقالتهم، أنه "بوش" ظل يكذب طوال حكمه مثلما هي عادة رؤساء أمريكا، وأن إدارته بنت كل جرائمها في العراق وأفغانستان وغيرها على معلومات كاذبة اختلقتها هي بنفسها. ومن ذلك مثلا اتهام المتحدث السابق باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان الرئيس بوش في مارس الماضي باستخدام "حملة تضليل إعلامية للترويج لحرب العراق"، وقول ماكليلان - في كتاب حمل عنوان "ما الذي حدث داخل البيت الأبيض في عهد بوش وثقافة الخداع"- إن بوش لم يكن صريحا فيما يتعلق بحرب العراق، بل واتهم ماكليلان وسائل الإعلام الأمريكية أيضا بالتواطوء مع بوش للترويج للحرب. وقال ماكليلان: "خلط بوش ومستشاروه بين الدعاية وبين مستوى الصراحة والنزاهة الضرورتين لبناء دعم الرأي العام والمحافظة عليه في زمن الحرب، وأن باقي المسئولين مثل ديك تشيني وكونداوليزا رايس تورطوا في هذه الأكاذيب وكانوا كالحواة والسحرة في لوي الحقائق وشجعوا هذه الأكاذيب". 4- كشف هانز بليكس رئيس فريق المفتشين الدوليين السابق في العراق ومدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية سابقا، والذي أدي تقريره الغامض عن احتمال امتلاك العراق لسلاح نووي لبدء الغزو وتأييده أمميا، في لقاء خاص مع قناة الجزيرة يوم 21 ديسمبر الجاري عن أن الولاياتالمتحدة هددته هو ومحمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتشويه سمعتهما ما لم يتجاوبا مع رغباتها في غزو العراق، قائلا: "أمريكا كانت قد صمَمت على غزو العراق بغض النظر عن نتيجة عمليات التفتيش.. الإدارة الأمريكية ضللت نفسها وضللت العالم بترويجها أن مسألة أسلحة الدمار الشامل سبب لغزو العراق"، وأضاف أنه ومدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي "سمعا أثناء مقابلة لهما مع ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي السابق ما يشبه التهديد بالتشكيك في مصداقيتهما، وأنه فهم من تشيني أن واشنطن تريد أن تسمع إجابة محددة، كانت مستعدة لاختلاقها إن لم تجدها"، مؤكدا "ما فهمته أنهم إذا لم نأت بالأجوبة المطلوبة، فسيقدمون هذه الأجوبة ويتخذون الإجراءات تباعا". وعندما سئل بليكس عن استعداده لأن يكون شاهدا أمام محكمة دولية على زيف هذه الادعاءات الأمريكية فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل العراقية، قال إنه مستعد لأن يروي قصته للعالم كله، ولفت إلى أن البرادعي وصف في مجلس الأمن الدولي الادعاء الأمريكي بوجود اتفاق تعاون نووي بين العراق والنيجر بأنه تزوير ومجرد مزاعم، وخلص إلى أن الاعتقاد بوجود أسلحة دمار شامل عراقية كان "فضيحة". أما سبب الرغبة الأمريكية المحمومة للحرب ضد العراق فأرجعها بليكس ل"النفط" قائلا: "كان من أهم الأسباب التي دعت إلى قيام الحرب، كما في حرب الخليج الأولى حيث كانت هناك مصلحة إستراتيجية لوجود القوات الأمريكية قريبا من خطوط النفط وخطوط الشحن". 5- أشارت صحيفة صنداي تايمز الأسبوعية البريطانية في 21 ديسمبر الجاري إلى فضيحة أخرى للحكومة الأمريكية بشأن إتلاف وثائق تعذيب معتقلين ودفاع البيت الأبيض عن هذا العمل, وقالت أن أشرطة الفيديو لتعذيب المعتقلين تصلح لأن تكون وثيقة اتهام ضد بوش ك "مجرم حرب"، وتكشف بعض أشرطة الفيديو هذه التي تم إتلافها تعذيب شخص اسمه "أبو زبيدة" من الناشطين الأساسيين في تنظيم القاعدة تم اعتقاله في عملية بباكستان في شهر مارس 2002 وجرى استجوابه في تايلاند، وانتزعت اعترافات غير حقيقية منه تحت التعذيب، ثم زعم الرئيس بوش أنه "أبو زبيدة" زود أجهزة الاستخبارات الأمريكية بمعلومات هامة عن "خالد شيخ محمد" العقل المفكر لهجمات 11 سبتمبر، ما يعني أن بوش أعطى موافقته على استخدام الطرق المختلفة لانتزاع الاعترافات من عنصر تنظيم القاعدة هذا واختلق معلومات كاذبة. وقد نقل تقرير صنداي تايمز عن "جان كيرياكو" أحد الأفراد السابقين في وكالة الاستخبارات الأمريكية "CIA" قوله "أن أبو زبيدة تعرض لأنواع مختلفة من التعذيب مثل حرمانه من النوم وإيقافه على قدميه لفترات طويلة وحبسه في مكان شديد الحرارة إضافة إلى الغرق الاصطناعي "سكب كميات كبيرة من الماء على رأس المعتقل الموضوع داخل كيس وهو مكبل الأيدي". وقد أكد "رون ساسكيند" مؤلف كتاب "نظرية 1%" عن عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي, "أن أبو زبيدة أباح بمعلومات تحت وطأة التعذيب لم يعلم مدى صحتها حتى الآن". وأضافت الصحيفة البريطانية "أن جميع أساليب التعذيب المشار إليها قد استخدمت من قبل عناصر الأجهزة الأمنية الأمريكية من أجل انتزاع الاعترافات من المعتقلين, وهذا العمل غير قانوني حسب معاهدة جنيف وحسب القوانين الأمريكية أيضا ويعد في الواقع جريمة حرب, وواشنطن نفسها اعتبرت أساليب التعذيب هذه التي مارسها النازيون في الماضي "جرائم حرب", إلا أنها ترى الآن أن هذا التعذيب قانوني أو لا تعتبره "تعذيب" أصلا"!. الادعاء.. الاعتراف يكفي! أركان التورط في جرائم إشعال حروب وقتل ما لا يقل عن مليون ونصف عراقي وأفغاني، فضلا عن المشاركة بالتواطؤ في قتل مئات الفلسطينيين وحصارهم وتجويعهم بإرادة أمريكية تحت شعار "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها"، متوافرة بالتالي في شخص هذا الرئيس الكذاب وكبار مسئولي إدارته من واقع اعترافهم.. فلماذا لا يقدمون لمحاكم جرائم الحرب؟ أين القانون الدولي من جريمة منع الطعام والوقود والدواء عن أهل غزة وغلق الحدود؟ وأين القانون الدولي من تدمير العراق وذبح شعبه ونهب ثرواته باتفاقات نفطية أشبه بالسرقات المنظمة لبترول العراق ونهب خيراته؟ ومن الأولى توجيه الاتهام للرئيس عمر البشير أم جورج بوش الذي اعترف وثبت عليه الجرم؟, أمريكا لا تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية ولم توقع على وثائقها، وكذلك السودان، فلماذا يصرون على محاكمة البشير أمامها، ولم يثبت أي اتهام محدد ضده أو يعترف به، ولا أحد يجرؤ على تقديم أي عرائض اتهام ضد بوش الذي اعترف بجرمه؟. لقد تم إعدام صدام حسين بتهمة أنه ارتكب "جرائم ضد الإنسانية" وأنه أعطى تعليمات بقتل العشرات من معارضيه، ولكن بوش متهم بقتل مليون عراقي بالتمام والكمال واعترف بتهمته وأكاذيبه، كما أنه متهم بإبادة الإنسانية في العراق وأبو غريب وجوانتنامو وأفغانستان وباكستان وتحويل العالم إلي بؤرة إجرامية وغابة وحوش.. فأين العدالة وأين القصاص؟. مؤشرات إيجابية لقد سعى بوش وإدارته للحصول على إعفاء خصوصي من المحكمة الجنائية الدولية وحصلت أمريكا على قرار من مجلس الأمن يعفي جنودها وقادتها من المحاكمة الدولية على جرائم الحرب استمر يتجدد من عام 2001 حتى عام 2004، ولكن في عام 2005 رفض مجلس الأمن تجديد هذا الإعفاء، وحاولت أمريكا أن تحمي نفسها بتوقيع اتفاقيات مع عدة دول لمنع محاكمة مسئوليها وجنودها على أرضها، ولكن المهم أنهم أصبحوا الآن بلا حصانة ويمكن محاكمتهم! وقد قدم بوش بنفسه اعترافات تفصيلية عن جريمة غزو العراق وقال أنه غزا العراق وقتل المليون عراقي بلا سبب، فمن يحاكمه؟ وإذا لم تكن هذه هي مهمة أوكامبو ومحكمة جرائم الحرب الجنائية الدولية فما هي مهمتها؟. في أعقاب التوقيع على بدء عمل المحكمة الجنائية الدولية في يوليو 2002 التي تسمح بمحاكمة "الأفراد" وليس الدول بتهمة ارتكاب جرائم حرب، رفضت الولاياتالمتحدة ليس فقط التصديق عليها، ولكنها طالبت باستثناء جنودها وكبار المسئولين فيها من المثول أمام هذه المحاكم في حالة قرار هيئات أو مجموعات حقوقية المطالبة بمحاكمتهم عن جرائم حرب ارتكبوها في الصومال أو العراق أو غيرها.وبلغ التعسف الأمريكي، بجانب مطالبة مجلس الأمن بإصدار قرار يستثني جنودها من المحاكمة، حد توقيع اتفاقات ثنائية مع غالبية دول العالم تستثني جنودها، والتهديد بتعليق مشاركتها الفعالة في حلف الناتو ما لم تجر الموافقة على هذا الاستثناء، وهو ما حصلت عليه بالفعل لمدة عام ظل يتجدد حتي توقف في 2005، فسعت واشنطن لاستغلال المادة رقم "98" من الاتفاقية، التي تسمح بالدخول في اتفاقيات ثنائية تتفق الدول بمقتضاها على استثناء جنود دولة ما من العاملين على أراضيها من نصوص الاتفاقية! وهذه التدخلات الأمريكية السابقة جعلت الأمر وكأنه ليست هناك معايير واضحة للمحاكمة، مما يعني فتح الباب للقوى الدولية المهيمنة عالميا للتهرب من محاكمة رؤساءها أو لممارسة ضغوط عبر مثل تلك المحاكمات أو التهديد بها، اعتمادا على المقاييس الغربية، والتقارير الغربية "كما في حالة الرئيس البشير". والأهم من كل ذلك– على حد قول الخبير القانوني د. محمد سليم العوا - أنه "لو حظي قرار أوكامبو بشأن البشير بقبول هذه الدائرة من المحكمة الجنائية وصدر أمر قضائي بالقبض على الرئيس البشير "وهو أمر يتوقعه الجميع" فسيكون سابقة خطيرة قد يصل مداها إلى الرئيس جورج بوش نفسه بسبب المجازر التي ترتكبها قواته في العراق وأفغانستان والصومال، وبسبب الدعم غير المحدود المقدم من إدارته لإسرائيل لتستطيع تنفيذ مجازرها اليومية في فلسطين ولبنان وغيرهما، بل وقد يصل مداها إلى مئات المسئولين الصهاينة الذين تثبت وثائق وأدلة لا يرقى إليها أي شك ارتكابهم مئات الجرائم ضد الإنسانية من دير ياسين إلى بحر البقر إلى صابرا وشاتيلا إلى قانا إلى الخليل وجنين وغزة وعشرات الأماكن الأخرى". من ينتصر للعدالة إذا؟ وهل بوش على رأسه ريشه من المحاكمة؟ لماذا لا يتحرك دعاة حقوق الإنسان في العالم؟ ولماذا لا يرفع رجال القانون ضده لوائح اتهام في المحاكم الدولية تطالب بمحاكمته على جرائمه التي اعترف بها؟ ومن يحاكمه على جرائمه في حق الشعب الفلسطيني والعراقي والأفغاني والصومالي؟.