بحنين مفرط الى رومانسية الماضي، تحتفل الحركات التي كانت مسماة يسارية بالذكرى الاربعين ل"الحركة الطلابية"في ايار مايو 1968، التي اشتعلت شرارتها الاولى في الحي اللاتيني في باريس قرب محيط جامعة السوربون، وشكّلت منطلقاً لمد ثقافي ومطلبي واسع انتشر في اذهان ذلك الجيل من الشباب على امتداد القارة الاوروبية، وبلغت آثاره ضفافنا في زمن غير بعيد عن تلك المرحلة. بعد اربعين سنة يبدو ذلك التحرك اشبه بالحلم. ذاب النبض الثوري الذي كان يميز تلك المرحلة وتدجّن"ابطالها"في المؤسسات وداخل الانظمة. دانييل كوهن بانديت او"داني الاحمر"، أحد رموز تحرك الطلاب الفرنسيين، اصبح نائباً في البرلمان الاوروبي يدافع عن الغزو الاميركي لأفغانستان والعراق بعد ان كان هو ورفاقه يرفعون شعارات العداء ل"الامبريالية الاميركية"على خلفية تورطها في فيتنام. رموز آخرون باتوا موزعين بين مقاعد الحكومات ومقاعد المعارضة، لكن اللفحة الثورية التي كانت تنزع الى الانقلاب على ما هو قائم اكثر من رغبتها في اصلاحه من الداخل، غابت عن خطابهم السياسي. من علامات ذلك الزمن ايضاً أن باريس دخلت التاريخ ايضاً من باب المشكلة الفيتنامية، اذ كانت العاصمة الغربية الوحيدة التي وافق وفد فيتنام الشمالية على الجلوس مع الاميركيين لبدء التفاوض فيها، على رغم المخاوف الامنية التي كانت تمثلها تلك المشاركة بالنسبة الى الوفد الاميركي، بسبب التظاهرات الصاخبة التي كان يشهدها محيط السفارة الاميركية في باريس بشكل شبه يومي. انتهت المشكلة الفيتنامية. انسحبت اميركا واعادت قراءة تاريخها. وباتت فيتنام اليوم بلداً مزدهراً ومنفتحاً على عناصر الاقتصاد الرأسمالي، بعد ان اعادت هي ايضاً قراءة علاقتها بالولاياتالمتحدة وبالغرب عموماً. اما ايار 1968 فقد خلّف وراءه انقلاباً ثقافياً على القيم التي كانت سائدة في المجتمعات الاوروبية، من النظرة الى المرأة الى مسائل الزواج والطلاق وتحديث القوانين المتعلقة بحماية الحريات العامة وتنظيم اوضاع المهاجرين بما يضمن حقوقهم الاساسية. وانتشر ذلك النمط الثقافي الى دول عديدة في اوروبا نفسها ولكن ايضاً في مناطق معروفة بكونها محافظة في آسيا واميركا اللاتينية، بحيث بات ما كان مقبولاً قبل ذلك التاريخ غير ممكن بعده. وعلى رغم النقد الذي يوجهه رئيس فرنسا نيكولا ساركوزي لما يسميه"جيل 1968"ودعوته الى القطيعة مع تلك المرحلة، آخذاً على قادتها"وقاحتهم"في التعاطي مع المجتمع، فقد كان من المستصعب تصور ان ينجح ساركوزي في الوصول الى الاليزيه لولا ارث 1968 الثقافي، وهو الكاثوليكي المطلّق، المولود من أب مهاجر وأم يهودية. بهذا المعنى يُعتبر انتقاد ساركوزي لذلك الإرث هو الوقاحة بعينها، كما عبّر بصدق كوهن بانديت. غير ان النظرة الى الحصيلة السياسية لما خلّفه ايار 1968 سوف تترك انطباعاً مختلفاً تماماً، سواء تحدثنا عن فرنسا ام عبرنا القنال الى بريطانيا التي فاخرت في ذلك الوقت ببروز رموز فيها على يسار حزب العمال وضمن الحركات الشيوعية والتروتسكية التي بدأت مواجهتها مع هارولد ولسون"اليساري"مثلما بدأت الحركة الفرنسية تحركها في وجه شارل ديغول، باعتباره رمزاً للشوفينية وعثرة في طريق الانفتاح الفرنسي على العالم كما كانوا ينظرون اليه. في هذا المجال ليست الصورة وردية بأي مقياس. فلو كان المقصود من ايار 1968 حصاداً سياسياً لمصلحة اليسار فإن الذي حصل هو العكس. في فرنسا، وعلى رغم استقالة ديغول، فقد خلفه جورج بومبيدو الديغولي وسيطر اليمين على الاليزيه 26 سنة من اصل السنوات الاربعين، لم يخترقها سوى فرنسوا ميتران 14 سنة الذي لا يمكن وصف ولايته على انها من نتاج التحرك الطلابي على رغم الانتماء العاطفي والثقافي والمعيشي قرب الحي اللاتيني لتلك المرحلة الذي كان ميتران يفاخر به. في بريطانيا ايضاً حكم المحافظون 22 سنة قبل ان يمسك العمال"الجدد"بالسلطة، وهم أبعد ما يكونون عن التراث الثوري الذي ورثوه. الامر ذاته في الولاياتالمتحدة التي سيطر فيها الجمهوريون على البيت الابيض 28 سنة من اصل الاربعين سنة الماضية. هذا عندهم، أما عندنا وفي المواقع القليلة التي شعرت بعاصفة التحرك الطلابي قبل اربعين سنة، فقد ارتدت المجتمعات الى الوراء وعادت الى عصبياتها القبلية والعرقية والطائفية، وغاب مناخ التغيير الذي كان يؤمل أن يتقاطع مع تلك الحواجز ويتجاوزها... وبتنا بانتظار 1968 من نوع آخر!