في تاريخ الشعوب أحداث تترك بصماتها عميقاً في نسيجها الحضاري، وهناك أحداث تاريخية تمرّ بالشعوب التي عاشتها مرور الكرام "أيار مايو 1968" في فرنسا هو من الصنف الأول، ولا داعي لذكر أمثلة عن النموذج الثاني لكثرتها في ما يُعرف اليوم بجنوب الأرض الذي ننتمي إليه. أما السؤال: لماذا تثمر الأحداث وتزهر عند شعب وتجحف عند شعب آخر؟ فهذا يعود الى الاستعدادات الموضوعية العميقة التي يعيش على وقعها هذا الشعب والتي تغيب عند ذاك. ففي هذا الإطار، كان بإمكان الثورة الفرنسية، عام 1789، أن تكون مجرد حرب أهلية، مثلما هي ثوراتنا نحن مثلاً، وان تتحوّل الى فتنة داخلية. إلاّ ان إرادة الشعب الفرنسي ووعيه حوّلاها الى حدث تاريخي عظيم إنسحب لاحقاً على أمم الأرض كافة، وقد اضطر حتى الملكي من أنظمتها أن تُدخل مفاهيمها الجديدة الى دساتيرها. فاللحظة الثورية، المكثَّفة والناضجة، تؤدي الى تغييرات بعيدة الأمد" فيما لا تؤدّي اللحظات الانتفاضية، الفارغة من الداخل والهشة، سوى الى حمامات دم. وتبدو لحظة أيار مايو 68 في فرنسا لحظة تأسيسية، على نحو ما يعكف على تصنيفه المؤرخون المعاصرون. أي أنه، بعد هذا التاريخ، يستحيل على الأمور، في الحياة اليومية والعملية، أن تعود الى حيث كانت قبل أن تنطلق. ففرنسا ما بعد أيار مايو 1968 هي غير ما كانت عليه قبل هذا التاريخ، على الأصعدة كافة كما سوف نرى، وليس فقط على الصعيد السياسي البحت. ونجاح هذه اللحظة المعاصرة، مثله مثل نجاح الثورة الفرنسية قبل قرنين تقريباً، يعود الى انها حصلت بعيداً عن تأثيرات الخارج" أي أنها نضجت في الوعي الفرنسي العام، في قلب الطبقات الوسطى، فتفتقت إقبالاً شاملاً على دعوة التغيير التي أطلقها الطلاب في حينه. ويكفي، لذلك، أن نطلع على مسلسل الأحداث لكي نكتشف كم أن توسّع الأحداث كان حلزونياً، غامراً تدريجياً المجتمع الفرنسي بأسره. بدأت الأحداث بتجمع معادٍ للإمبريالية نُظِّمَ في إطار جامعة نانتير، سرعان ما استجابت له الجامعات الأخرى في باريس، ومن بينها جامعة السوربون، في 2 أيار 1968. في اليوم التالي أخلت الشرطة بالقوة الجامعات مستخدمة الهراوات والقنابل المسيلة للدموع. ثم تقرّر اقفال الجامعات. الأمر الذي أدّى الى وجود 49000 طالب فرنسي في الشارع. في 6 أيار بدأت المتاريس ترتفع في الحيّ اللاتيني حيّ الجامعات في باريس. وبدأت الصدامات العنيفة بين الطلاب وعناصر الشرطة ونتج عنها، في يوم واحد، سقوط 945 جريحاً، بينهم 345 شرطياً. انتقلت الحركة الاحتجاجية الطلابية الى مدن ستراسبورغ ونانت ورين وتولوز، فيما انضم العمال الى الاضراب العام في مدن ليون وديجون. في 10 أيار هاجمت عناصر الشرطة ليلاً متاريس الطلاب في وسط باريس، ونتج عن الصدام 367 جريحاً حالتهم خطرة، من بينهم 251 شرطياً. في اليوم التالي، دعت النقابات العمالية في فرنسا الى الاضراب العام والانضمام رسمياً الى حركة الاحتجاج. في 13 أيار حصلت تظاهرات ضخمة، جمع الطلاب والعمال، شقت شوارع باريس وتألفت من 000،600 متظاهر. شارك في هذه التظاهرة أبرز أقطاب اليسار، وبينهم بيار منديس فرانس وفرانسوا ميتران وغي مولي وفالديك - روسيه. في 16 أيار توقفت مصانع رينو عن العمل وبدأت المطالبة بتخفيض ساعات العمل ورفع رواتب العمّال. في 20 أيار أظهر استطلاع للرأي العام ان 53 في المئة من الباريسيين يؤيدون الحركة المطلبية. في اليوم التالي بدأ الفرنك الفرنسي بالانخفاض كما بدأت الرساميل تهرب نحو المصارف السويسرية. في 24 أيار سقط أول قتيل من المتظاهرين، في مدينة ليون. فبدأت هجومات ضد مخافر الشرطة وصدامات عنيفة جداً حصدت 456 جريحاً. في اليوم التالي حصلت مفاوضات بين رئيس الوزراء الفرنسي وقادة النقابات والطلاب توصلت الى حلّ وسط. فتوقفت تدريجياً. في 29 أيار هرب الرئيس ديغول الى قاعدة عسكرية فرنسية في المانيا، ثم عاد بعدها الى باريس بعدما ضمن وقوف الجيش الى جانبه. اتسمت أحداث أيار 68 باعتمادها أساليب في التعبير مختلفة وجديدة. فهي أعادت الى المناخ الفرنسي العام والى الذاكرة الشعبية الباريسية تقاليد التفكير الحرّ المتوهج التي أضعفتها الحروب الفرنسية المتتالية ضد جيرانها، تارة انكلترا وطوراً المانيا. غير أن نمط التفكير الفرنسي المتحرّر، والذي يعبّر عنه الشاعر جاك بري÷ير أفضل تعبير، لم ينطفىء في التقليد السياسي الشعبي الفرنسي، بل اتخذ لنفسه وجهاً جديداً، وهو إقامة حلقة تواصل كانت مفقودة حتى ذلك الحين بين الطلاب، أي المثقفين، والعمّال. كانت شعارات أيار 68 مستوحاة كلها من اللغة الشعبية ومسبوكة في صورها وتعابيرها. إذ اجتاحت الجدران والمناشير شعارات تنطق بالتفكير الجديد العام، بلغة جديدة وعامة. الأمر الذي سهّل كثيراً نقل شرارة التظاهر من الوسط الطلابي الجامعي الى الشارع. ذلك ان العمال ونقاباتهم قد أحسّوا بسرعة، وبفضل سلاسة لغة التخاطب القائمة، أن ما يطالبون به ليس بعيداً عما يطالب به الطلاب فحصل التقاء الفريقين، في الشعارات والمناشير والبيانات ولغة التخاطب العامة، قبل أن يحصل في الشارع. ونجاح هذا المستوى التخاطبي المشترك هو الذي شكّل جسر العبور نحو انجاح الحركة المطلبية ككل. ولم تدرك السلطة خطأها العملاني سوى بعد أسبوع، بعدما فاتها قطار الحوار، إذ بعدما أقفلت الجامعات، عادت ودعت الى استئناف الدروس فيها بعد سبعة أيام، لاكتشافها أنها رمت إذّاك، وبشكل أرعن، نحو أربعين ألف طالب وطالبة، وأن هؤلاء قد تحوّلوا الى أدوات تحريك ناجحة لمجمل الأوساط الباريسية، وبخاصة لأوساط العمال. فلغة الطلاب إذّاك كانت لغة مباشرة، عارية من كل تنميق، شبيهة جداً بتلك التي يحبّها العمال. بحيث أن موجة اتصال واحدة قد نشأت مباشرة بين الطلاب والعمال. بينما كانت لغة الإعلام الرسمي، في الخندق الآخر، لغة منمَّقة وملتوية، لا تسعى الى مخاطبة الناس بقدر ما نسعى الى تخدير وعيهم. من هنا تفوّق الطلاب، تعبيرياً، على كتّاب السلطات الذين كانوا يعملون في الدوائر الإعلامية الرسمية. كان الطلاب يطالبون بتغييرات تعدّل نظام التعليم السابق، القائم على الأستذة وغير المناسب للأزمنة الجديدة، القائلة بالحرية والديموقراطية على المستويات كافة. وكان العمّال يطالبون، من ناحيتهم، بتعديل نظام الاستغلال الذي كانوا يخضعون له في مصانعهم، بحيث ان تدخل رياح الديموقراطية والمساواة الى هذه المصانع. وصحيح أن كل طرف كان ينطلق من قاعدة موضوعية ومفاهيمية خاصة به المشاركة بالنسبة الى الطلاب والعدالة الاجتماعية بالنسبة الى العمال، إلاّ ان الطرفين ذابا، بعد الأسبوع المطلبي الأول، في شعار جديد هو إقامة فرنسا جديدة، مبنية على معطيات جديدة، وبعيداً عن تركة الحرب العالمية الثانية والديغولية التي كانت تمثّلها. فالطلاب والعمال والأطراف الوسطى كافة بعد حين، شعروا بأنه حان لفرنسا ان تغادر مناخات ما بعد الحرب العالمية الثانية وأن تدخل، بذهنية جديدة ومفاهيم مختلفة، في النصف الثاني من القرن العشرين. فرموز السلطة، من المدرسة الديغولية، كانوا يكرّرون الى ما لا نهائية، وبشكل آلي، هواجس جيل الحرب العالمية الثانية في فرنسا. أما جيل الشباب، الذي لم تكن تعني له الحرب العالمية الثانية ما كانت تعنيه لأسلافه، فكان بحاجة الى رؤية حضارية جديدة، يُرسم مستقبله في إطارها. وهذا البُعد التجديدي، بعد حلم الأجيال الجديدة، والذي هو طبيعي جداً من الناحية السوسيولوجية، لم تفهمه السلطة الفرنسية، الديغولية والمتخشّبة حينذاك، والمشغولة بأمور تمديد السلطة وغير المبالية بتاتاً بأحلام الشباب وغرائزهم التغييرية التي، لو أحسن التعامل معها بدل قمعها، لأزهرت تجديداً في حقول معينة من الحياة العامة. فانتفاضة أيار 68 في فرنسا كانت انتفاضة شبابية، لأن مَن كانوا في السلطة آنذاك لم يتعاملوا معها بشكل شبابي، بل حاولوا التصدّي لها بشكل غير ديموقراطي وبوليسي، حتى أن الأمر سرعان ما ارتد على السلطة نفسها، واضطر رمزها الأكبر، الجنرال ديغول، الى الاستقالة بعد فشل محاولته لليّ ذراع الحركة المطلبية بتاريخ 28 نيسان ابريل 1969. تعاملت السلطة الفرنسية مع أحداث أيار 68 على أساس أنها أحداث سياسية ليس إلاّ، ولم تفهم بُعدها السوسيولوجي والحضاري. أي أن مغزاها المعرفي الدفين قد غاب عنها. ولذلك دفعت الثمن لاحقاً. ماذا بقي اليوم من هذه الأيام الصعبة التي مرّت بها فرنسا والتي خفّف من أهميتها أخصامها في وقت ألقى عليها أنصارها هالة من البطولة؟ بقي، على المستوى النقابي الصرف، تعديلات قانونية عديدة مثل مبدأ المشاركة في الوسط الأكاديمي والعمّالي على حد سواء دخلت في صلب حياة الفرنسيين وتشريعاتهم الجديدة. والمعروف أنه عندما تتمكن حركة مطلبية من إدخال تغييراتها الى صلب القانون، تكون فعلاً قد بلغت هدفها، في الحاضر والمستقبل على حدّ سواء. على المستوى السياسي، استطاعت حركة أيار 68 من ان تقلب المعادلة بالعمق، إذ أنها قلبت صفحة ما بعد الحرب العالمية الثانية، السلفية، وفتحت صفحة جديدة، معارضة، سوف تتمثل بوصول اليسار الى السلطة مع فرانسوا ميتران، لولايتين متتابعتين، وهو الذي كان قد شارك على أقدامه، في أيار 68، الى جانب الطلاب والعمال، في التظاهرات المرافقة للحركة. على المستوى الثقافي العام، بلورت هذه الحركة مناخاً جديداً في البلاد سمح للطلاب الفرنسيين ان يدخلوا الثقة الى نفوس جميع الشباب الفرنسي، في الثانويات وفي حقول العمل كافة، وأن يفرضوا حضور هذا الشباب على الجيل الأبوي السابق، البطريركي البنية، والذي كان يخنق الشباب في أحلامهم كما في مبادراتهم الراشدة كافة، باعتبارهم أطفالاً مدى الحياة. سمحت أخيراً هذه الحركة اليسارية والمسؤولة الفرنسية أن تمدّ نفح التغيير الى الشباب في معظم الدول الفرانكوفونية، بحيث ان بعض شعارات التظاهرات الطلابية التي جرت في بيروت في السبعينات، كانت تعكس رياح الحركة المطلبية الفرنسية الستينيّة. وفي المحصلة، يمكننا أن نقول بأن أيار 68 كانت لحظة تأسيسية بالنسبة الى المجتمع الفرنسي وعاملاً مساعداً، في الخارج، على خروج الشباب والتعبير عن وجهة نظره الملتزمة بقضايا الإنسان. إلا أن ما صحّ في فرنسا وقتذاك لم ينجح في التجارب التي استوحت التجربة الفرنسية. لكن هذه قصة أخرى طويلة تعيدنا الى حيث كنّا... أو إلى حيث نحن الآن بالأحرى.