عبر أحاديثه في قناة "الجزيرة"، أعاد الصحافي محمد حسنين هيكل الاعتبار إلى المعلومة كحجر زاوية في التحليلات السياسية بعدما طغت موجة التحليلات المرتكزة على الرغبات والمواقف المسبقة إلى حد تحوّل التحليل السياسي الى تبشير فج وبالغ السذاجة ولا علاقة له بالحقائق الموضوعية. تجربة هيكل التلفزيونية في زحام المحللين السياسيين تبدو نقطة ضوء بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هذه أو تلك من الاستخلاصات التي يصل إليها هذا الكاتب الصحافي المخضرم، والباحث أبداً عن الحقيقة في عالم عربي يبدو أغلب الأحيان بعيداً منها وغير قادر على استشراف آفاقها. فمن يتابع حلقات هيكل في الجزيرة يلحظ كميّة الوثائق التي يستند إليها، والتي ينطلق مما تحتويه من معلومات ومواقف تاريخية كي يؤسس عليها منطقاً منسجماً ومترابطاً يجيز فهم ما حدث، فلا نتائج من دون مقدّمات ولا نتائج تعاكس مقدّماتها. يصح هذا بالنسبة لتناوله أحداث الماضي التي أصبحت جزءاً من التاريخ، تماماً كما يصح في تجربته تحليل الواقع الراهن ومحاولة رؤية آفاقه وموضع أقدامنا فيه. هي قراءة حيوية تستخدم المعرفة وتعلي من شأنها إذ هي تعيدنا من جديد إلى محاولة فهم الواقع بالاستناد لمفرداته وما يتضمنه من تفاصيل ومواقف، كما أيضاً من مصالح تحكم مواقف القوى الدولية المختلفة وتحدّد لها قراراتها. قراءة كهذه هي بالضرورة قادرة على فتح باب الجدال الفاعل حول الواقع العربي وصلته المباشرة وغير المباشرة بالعلاقات الدولية وموازين القوى، وهي كلها مفردات تنبذ المزاجية والموقف المسبق، وتنحي من طريقها الرغبات والأوهام كي يمكن لها بعد ذلك رسم صورة تقريبية للواقع لا تجافيه ولا تقع في الخصومة معه فتسهم في تضليل المشاهدين وتخريب وعيهم. نقول ذلك ونحن نلمس حجم المشاهدة الجماهيرية لهذه الحلقات ومدى التجاوب معها، الأمر الذي يفارق الحالة التلفزيونية السائدة والتي باتت عناوينها الرئيسة التحليلات العابرة والموقتة وما تتضمّنه من ركاكة تدفع المشاهد إلى حالات لا تحصى من الإحباط واليأس بسبب ضبابية الرؤية وغموضها الذي ينتقل بسرعة البرق من المحلّل إلى المشاهدين على العكس تماماً من قراءات هيكل وتحليلاته. تجربة غنية لرجل عايش عقوداً من حياتنا السياسية ولكنها فوق ذلك تجربة تستند إلى المعرفة للقبض على الدلالات.