كان لترشح الفلسطيني سيد قشوع لجائزة إمباك - دبلن الأدبية هذه السنة وقع الصدمة، لا على الكتاب العرب المهتمين بالإنتاج الثقافي الفلسطيني فقط بل على النقد الإسرائيلي أيضاً. فهو كاتب فلسطيني يكتب بالعبرية ورواياته هي روايات صادمة، تكمن قوتها في الكشف عن هزيمة كلية وشاملة لا للآخر فقط إنما للذات أيضاً، وتصور كل أنواع الاضطهاد والتمييز العنصري الموجه ضد الفلسطينيين، كما تكشف بقوة عن تمزق الهوية الفلسطينية وتشظيها. ولد سيد قشوع عام 1975، في مدينة الطيرة، لأب يعمل موظفاً في المصرف وأم تعمل في التعليم. وهو الثاني بين أربعة ابناء. حين كان في الخامسة عشرة تم قبوله في مدرسة العلوم والفنون في القدس، وهي مدرسة داخلية يهودية مرموقة. وبعد انهائه تعليمه الثانوي درس في الجامعة العبرية في القدس، وتخصص في الفلسفة والعلوم الاجتماعية. بعدها عمل مراسلاً للصحف العبرية، ثم تحول إلى ناقد تلفزيوني، وصاحب عمود في الصحافة العبرية. استمد سيد قشوع أهميته من روايته الأولى"عرب يرقصون"كتبت بالعبرية، وترجمت إلى لغات عدة، منها الإنكليزية"Dancing Arabs"صدرت عن دار Grove press في نيورورك، فيها يماهي سيد قشوع بجلاء وقصدية بين الراوي، أو بطل الرواية ونفسه. فقد منح البطل صوته الخاص به، وأفكاره وحياته أيضاً، لتصبح الرواية في شكلها العام وخلاصتها لا نقيضاً للسرديات القومية فحسب إنما رواية تنشئة، رواية فردية تقوّض بصورة كلية سرد الجماعات وتسخر منها. انها رواية قائمة على نوع من البلاغة الهامشية، والأفكار غير المتيقنة، والسخرية الدالة. أحداثها تجرى وتمتد زمانياً بعمر البطل، لتفسر حياته بصورة ساخرة منذ طفولته، ومراحل حياته المبكرة التي تسبق مراهقته حتى سنِّه الخامسة والعشرين تقريباً. ويمر بطل الرواية ? الفلسطيني الأصل، الإسرائيلي الجنسية - وهو الرواي ذاته في طبيعة الحال، بتجارب مختلفة ومتوترة من الرفض والتقليد ازاء المجتمع اليهودي، فاضحاً عنصرية هذا المجتمع بالدرجة الأساس، وكاشفاً في الوقت ذاته عن تمزق الهوية الفلسطينية، ووقوعها في منطقة عدم الحسم، اذ يظهر التقليد بمثابة تمثيل لاختلاف هو ذاته سيرورة من التقليد والقبول. فرواية"عرب يرقصون"تكشف عن هوية فلسطينية خاصة ومحددة، وعن ظروف اجتماعية نجهلها نحن، بل مرَّت بتعتيم كلي، وهي ظروف الفلسطينيين العرب الذين يعيشون في إسرائيل. خارج الرواية الفلسطينية إن تحديد رواية"عرب يرقصون"بعبارة"الرواية الفلسطينية"يحررها حتماً من المعيار العام والشامل الذي نتعامل به في شكل واسع مع الرواية الفلسطينية. فالرواية الفلسطينية المكتوبة باللغة العربية تلتحق فوراً بنطاق أو معيار الرواية العربية وبشكلها ووجودها العام. غير أن رواية"عرب يرقصون"هي رواية فلسطينية بطبيعة الأمر لكنها لا تلتحق بالمعيار أو تكون تحت موازنته وقوانينه وثقله، لأنها مكتوبة باللغة العبرية، كما أنها لا تشبه الرواية"الأقلّياتية"المكتوبة بلغة الأقلية أيضاً، وهنا هي اللغة العربية في إسرائيل، والتي يحددها جيل دولوز وفيلكس غاتاري بما يسميانه"أدب الأقليات"فرواية سيد قشوع كتبها فلسطيني بلغة الأكثرية، أي باللغة الإسرائيلية الرسمية وهنا هي اللغة العبرية، ويحاول البطل أن يتمرد على الأقلية في داخله، لكنه لا يستطيع الالتحاق بالأكثرية أيضاً. هذا لا ينفي أن الرواية تسعى الى التفريق الدقيق بين فلسطيني الشتات الذي يلتحم بالثقافة العربية في شكل تلقائي والفلسطيني الذي يعيش في إسرائيل ويتكون لديه وعي"أقلياتي"خاص به، هذا الوعي الذي يجبره على قبول حد معين من الحياة، وإحساس وجودي متوتر، كأن يعيش على نحو محفوف بالأخطار، وخوف من الطرد والالتحاق باللاجئين. إنه يعيش في بلاده، لكنه على حدود أو هوامش كل وعد، ويخضع لكل قوى الهدم والتخريب، ويكون ساحة فعالة سياسياً من التعيين المتجاذب للهوية. بل هو وفي أحوال كثيرة، عرضة للمماهاة مع القوة المهيمنة. فالبطل لا ينفي محاولته المستميتة لتقليد الإسرائيلي في حياته، ولغته، ووجوده وكيانه. يراوغ بطل رواية سيد قشوع صاحب كثيراً في تفكيك الآلية العنصرية للمجتمع الإسرائيلي الذي يقوم بالأساس على نفي الفلسطيني ويحاول امتصاصه. من هنا يمتص الراوي الفلسطيني المجتمع الإسرائيلي، ويتعلم لغته، وتصبح أحلامه كائنة في الاندماج في هذا المجتمع. وهو يصارع كي يكون هو هو ومثلهم أيضاً، وهو يشعر بلا شك بالمهانة والاحتقار الإسرائيليين لنزوعه وقبوله بالهزيمة ومحاولته الاندماج في المجتمع الإسرائيلي. من هنا يبرز عائق آخر هو أن هذا المجتمع ذاته لا يتقبله، إنه يسخر منه ويجعله يشعر بالإهانة والإذلال، غير أنه يحاول التغلب عليه، من طريق قهره وبلغته. يواجه الرواي المجتمع الإسرائيلي بنقد لاذع، فهو مجتمع عنصري في طبيعته وتشكله وتكوينه، ولا يشعر بهذا النكوص بين طلاب مدرسته العبرية فقط بل من نوامي صديقته الشيوعية، وهي المثقفة العقلانية الرافضة لعنصرية، وديماغوجية مجتمعها. فقد كانت تنظر من الناحية النظرية إلى البشرية في شكل عام كنوع واحد، إذ لا فرق بين الأمم كأمم، ولا فرق بين الشعوب كشعوب، ولا تفاوت بين الأعراق والأثنيات كأثنيات وأعراق، بل هناك سياسة الاختلاف التي يجب تعميمها، وثقافة القبول بالآخر، في شكل يتحدد الفرق بين أفراد مختلفين كل واحد منهم يتصرف بمسؤوليته الفردية لا بمسؤوليته الجماعية، إذ لا فرق بين الجماعات كجماعات. غير أن البطل الذي كان يريد أن يندمج في المجتمع وأن يصبح اسمه مثل أسماء ابنائه يكتشف شيئاً فشيئاً أن هذه الفلسفة شكلية ونظرية ولا أساس لها في العمق على الإطلاق. لا يمكن أن تروى هذه الرواية إلا عبر ذات جربت هذا النفي القسري، لا على طريقة النفي التقليدية للاجئين، بل على طريقة الوجود القلق وغير المستقر على الدوام الذي يعيشه فلسطينيو الداخل. يروي سيد قشوع بمشاعر طفل هذه الزحزحة التاريخية لوجوده، فالنقش الأول على جسد ثقافته لا يأتي من الموقف السياسي، وهذه هي أهمية الرواية، إنما من مصدرين، الأول رمزي والآخر عاطفي، وبالتالي فإن القوة السردية والنفسانية التي تسلطها حال الانتماء تفوق الإسقاط السياسي وتواصل نوعاً من الانزلاق المتواصل للمقولات التقليدية التي نعثر عليها ببساطة في الرواية الفلسطينية، مثل: الأمة، القومية، الانتماء الطبقي، البانوريا الإقليمية، الاختلاف الثقافي... وما شابه. إن المخاوف الطفلية، والشعور بقلق الوجود، وممارسات السلطة السياسية، وتدمير الهوية الفلسطينية وتمزقها، والتعامل مع اليهود سياسياً واجتماعياً هي هموم وجود، أو كيان فلسطيني، وهي مجهولة نوعاً ما بحكم واقع وجودها في إطار تاريخي مختلف، وخاص أيضاً، وكذلك بحكم وجودها داخل مجتمع يهودي بالكامل، مجتمع قومي تتحقق قوميته في وجود دولة قوية عنصرية، وتنشأ هويته في إطار أمة لها لغتها الخاصة وتاريخها المختلف، وبينها تعيش الشخصية الفلسطينية صاحبة الحق بالأرض حياتها كآخر متجانس أو مطلق بالنسبة الى الشخصية الإسرائيلية. تصور الرواية على نحو صارخ وقائع حياة الشخصية الفلسطينية التي تعيش مرتبكة ومضطربة في المجتمع الإسرائيلي، وهي تعاني نفياً مزدوجاً، أولاً هنالك نفي إسرائيلي لها، لأنه يماهيها مع الآخر المطلق والكائن في العالم العربي المحيط به والمعادي له، وكذلك يماهيها مع الفلسطيني المعادي والمنفي واللاجئ والمقاوم. وهنالك نفي الشخصية الفلسطينية الذاتي كونها فلسطينية بلا أمة متحققة إنما ذات متحققة في أمة غريبة عنها كلياً، أي في إسرائيل. وأخيراً هنالك النفي العربي لهذه الشخصية، اذ يتم التعامل معها على نحو مزدوج، كونها فلسطينية وإسرائيلية في الوقت ذاته. تنطوي رواية"عرب يرقصون"على روح تهكمية ساخرة، اذ يرسم الراوي صورة نقدية قاسية لهزائم شخصية ووطنية عدة. وهذا النوع من النقد ليس أمراً سهلا، ًفالواقع هو واقع حزين، أما الإحساس به فهو إحساس ساخر يبعث على مفارقات الروح المشوهة للمجتمعات وانعكاساتها على الشخصية. الفرد هو غير المجموع، لكنّ الجماعة ترسم هزائمها وانتصاراتها واضطهادها لروح مهزومة. إنها كتابة بلغة المنتصر، اذ يستخدم المهزوم لغة القاهر ليقهره بها. إنها رواية موجهة الى قارئ منتصر، قارئ قاهر، وباللغة ذاتها التي كتب بها قرار تشريد الفلسطينيين وتشتيت هويتهم. * روائي عراقي