لا تخفي بادن بادن جمالها على أحد، فهي أسطورة متكاملة من الحسن والجمال. فتحت سمائها الزرقاء الصافية تتعالى الجبال الدائمة الخضرة، ومن باطن أرضها تتفجر ينابيع المياه المعدنية الدافئة التي فيها تداوى عدد من مشاهير العالم وشخصياته التاريخية. وصلتها مع إطلالة فصل الربيع فإستقبلتني بزهورها العطرية، ومناخها العليل، واجوائها الحالمة. عندها علمت لماذا إكتسبت منذ قرون طويلة لقب"عاصمة المصايف الأوروبية". فهذه المدينة الراقدة على حافة الغابة السوداء في جنوبألمانيا، والقابعة تحت أقدام سلاسل جبال الآلب، هي ملاذ سياحي من الدرجة الأولى لآلاف الزوار الذين يقصدونها من شتى بقاع الأرض، لقضاء العطلات أو لزيارة العيادات الصحية ومصحات العلاج الطبيعي المنتشرة في رحابها. اليوم الأول إزدادت بادن بادن توهجهاً وإشراقاً صباح ذلك اليوم الدافىء، حين وصلتها لقضاء ثلاثة أيام في ربوعها. وما أحلى وأروع الأيام في بادن بادن، فالمدينة تبدو وكأنها خرجت لتوها من كتب الأساطير، غير معنية بإيقاع الحياة السريع، مكتفية بسحر أبنيتها، وأناقة أهلها، وجمال طبيعتها حيث تتداخل وتتشابك فيما بينها لتشكل لوحة بانورامية رصيدها البحيرات، والشلالات، وجداول المياه، والمراعي الخضراء، والغابات وغيرها الكثير من المناظر البهية التي تنعش القلب والروح. وفي طريقي إلى الفندق مررت في شارع"لشتنتال"الذي بدأ حكايته كشارع تجاري بسيط، إلا أنه بدل صورته مع الزمن ليصبح أهم شارع تجاري في بادن بادن، والعنوان الذي يفضل كثير من الأثرياء أن يحمل إسم متجرهم أو مقر سكنهم. تنقلت في ارجائه، وتأملت أشجاره العتيقة، وجسوره المزدانه بأجمل النقوشات التي ترسم ظلالها على نهر"اوس"، والقيت نظرة على فنادقه الفخمة وقصوره الصغيرة التي تعيش سحر هذا الشارع الذي لا يزال يحافظ على مكانته كأحد أهم الشوارع التجارية في العالم منذ أكثر من 350 عاماً. في فترة ما بعد الظهر قررت إستخدام الدراجة الهوائية لإستكشاف الغابة - السوداء عبر الطريق البانورامية الشهيرة المعرفة بإسم"شوارتزفالدوششتراسه"والتي تمتد من بادن بادن إلى الجنوب بإتجاه بلدة"فرودنستات". سلكت خلال رحلتي الطرقات البرية والممرات الضيقة وإستمتعت بتلك البقعة الخضراء التي حباها الخالق بكافة مفردات الجمال، وعند أحد المنعطفات أطلت علي بادن بادن بجمالها المعهود، فوقفت على إحدى التلال أمتع ناظري ببيوتها القرميدية ومبانيها التاريخية، ثم ألقيت نظرة على وادي"الراين"وجبال"الفوج"، وتنشقت عبير الزهور التي تنمو في الغابة السوداء. ثم تابعت رحلتي ووصلت إلى فندق"باتهوف"الخشبي، حيث كان ينتظرني في ساحته الخارجية مجموعة من الأصدقاء الذين وصلوه بالسيارة. من هناك توجهنا معاً سيراً على الأقدام بإتجاه شلالات"جيرولدسو"الشهيرة. أنها فعلاً هدية رائعة نسجتها الطبيعة على الأراضي الألمانية. أنها المكان الذي شاهدنا فيه المياه وهي تتدفق وتنبثق من بين الصخور لترتاح في بركة فيروزية محاطة بزهور الرودودندرون العطرية. وأنا هنا، علمت لماذا كانت الشلالات المكان المفضل لدى الرسام الفرنسي"غوستاف كوربيه"، ومؤلف الموسيقى الألماني"يوهانس برامز"لتأليف موسيقاه الخالدة التي لا تزال تصدح في كثير من الأماكن حول العالم. تركنا هذا المكان المذهل وعدنا إلى وسط بادن بادن حيث قررنا التوجه إلى كازينو المدينة. وعلمت أثناء وجودي فيه أن الفنانة الألمانية الأصل"مارلين ديترتش"وصفته بأجمل كازينو في العالم. ومن المعروف أن هذا المبنى التاريخي المشيد منذ أكثر من 250 عاماً هو أقدم كازينو في ألمانيا. وقد تم تصميمه على غرار القصور الملكية في فرنسا ليستقطب النبلاء وطبقة النخبة، ولا يزال يحافظ حتى يومنا على اجوائه الراقية التي تستقطب كل من تحمله الرحلة إلى المدينة. في الكازينو أمضينا سهرتنا، وإستمتعنا بالهندسة الباروكية الحديثة التي لا تزال عالقة على جدرانه، ثم أكملنا ما تبقى من أمسيتنا في حديقة الكازينو المعروفة ب"حديقة البحر المتوسط الصيفية"التي أعيد ترميمها لتستقبل الزوار عندما يكون الطقس دافئاً. اليوم الثاني تطلب اليوم الثاني مني بعض الشجاعة للصعود إلى أعلى قمة في بادن بادن. فبواسطة قطار السكك الحديدية المعلقة الذي يعد من أكثر القطارات الأوروبية تقدماً من الناحية التقنية، صعدت عبر طريق شديدة الإنحدار إلى جبل"مركير"الذي يصل إرتفاع قمته إلى 2191 قدماً. ووصلت في غضون خمس دقائق إلى النقطة التي يصل إرتفاعها إلى 1214 قدماً، وخلال الرحلة شعرت انني مررت في إنحدارات وإرتفاعات مختلفة للوصول إلى القمة. غمرتني السعادة عندما وقفت في ذلك المكان الشاهق، وأحسست انني خضت مغامرة شيقة حتى لو كان عمرها قصيراً. ليس القطار الوسيلة الوحيدة للوصول إلى قمة جبل"مركير"، فهناك الباصات، وسيارات الإجرة، كما بإمكانكم القيام برحلة سير على الأقدام عبر الممرات المخصصة لذلك، وزيارة محمية الحيوان التي تضم الغزلان المرقطة بالأبيض، والغزلان الحمراء التي تستحق فعلاً مشاهدتها عن كثب. محطتي الثانية كانت في متحف"فريدر بيردا"الحديث في شارع"لشتنتال"، وينظر إليه كثيرون على أنه الجوهرة المتلألأة في تاج بادن بادن. والمبنى حيث يقع المتحف مضاء بشكل طبيعي من نور الشمس الذي يدخله من شبابيكه الواسعة ليجعل منه فسحة تتوهج بالنور والضوء. صمم المتحف المهندس المعماري الأميركي الشهير"ريتشارد مايير"، وتشمل القطع الفنية المعروضة فيه 500 لوحة زيتية، ورسومات، ومنحوتات، وأشياء أخرى تحكي عن تاريخ الفن خلال المئة سنة الماضية. يسلط قسم من المتحف الضوء على الفن الكلاسيكي الحديث، وعلى أعمال للفن التعبيري لفنانين ألمان أمثال"ماكس بيكمان"، و"ارنست لودويغ كيرتشنر"، و"اوغيست ماكيه". كما يحتضن مجموعة من اللوحات التعبيرية التجريدية، وبعضاً من آخر أعمال"بابلو بيكاسو". ووقفتي الثانية كانت في متحف بادن بادن الذي يحكي عن تاريخها الطويل وبالأخص خلال الفترة التي إستعمرها الرومان، وشهرتها كبلدة لينابيع المياه الحارة الطبية، ومركز مهم للإهتمام بالصحة. يحتضن المتحف في جناحه الزجاجي الجديد منحوتات، وقطعاً فنية من عهد الرومان ولغاية يومنا هذا، فضلاً عن مجسمات قوطية الطراز. وفيه أيضاً دمى جميلة الشكل متفاوتة من حيث تاريخ صنعها، وعملات نقدية وميداليات متميزة. تمر الساعات في بادن بادن بكل شاعرية ورومانسية، وكأن الحياة الصاخبة توقفت في البعيد واستبدلت بالهدوء والسكينة. وعندما شارفت الشمس على المغيب وبدأت ظلمة الليل تنسدل فوق المدينة، كان علينا التوجه إلى أحد الأكواخ الخشبية المنتشرة في الغابة السوداء، والتي كانت تنيرها المشاعل المضاءة أمامها لتهدي محبي السهر والسمر إليها. ويا له من مشهد رائع عندما رحب بنا صياد الحيوانات البرية الذي ينتظر الوافدين إلى الكوخ كل ليلة، ليعزف لهم معزوفة شجية بواسطة آلة البوق التي تملأ الأجواء بالغبطة والسعادة. اليوم الثالث هل هناك أروع وأجمل من رحلة صباحية على متن عربة تجرها الخيل في يوم ربيعي مشمس ودافئ، وسط طرقات بادن بادن المحروسة بشتى أصناف الزهور والنبات؟ هذا ما قمت به في يومي الثالث والأخير في المدينة، إذ نهضت في الصباح الباكر في الوقت الذي كان يخيم السكون على المدينة، ولا يقطعه سوى هبوب النسيم العليل، وتغاريد الطيور، وحفيف اوراق الأشجار المنتشرة على جانبي الطريق. وقد كان ينتظرني خارج الفندق الحوذي الذي رحب بي بإبتسامة عريضة ودعاني إلى الإسترخاء في مقعدي. وإنطلقنا معاً عبر طرقات بادن بادن التاريخية، وبدأ يقص علي حكايات قديمة وبعض النكات التي أضحكتني كثيراً. وخلال الرحلة مررت أمام صالة"فستسبيالهوس"التي تعد ثاني أكبر صالة للأوبرا والمسرحيات الموسيقية في أوروبا، وهي تستوعب من 50 إلى 2500 شخص، وتتميز بتقنيات هندسة الصوت المتطورة التي هي من مقومات نجاح المسرحيات الموسيقية والعروض الفنية التي يقدمها أهم الفنانين العالميين. ثم أخبرني الحوذي عن شهرة بادن بادن العالمية في مجال ينابيع المياه المعدنية الدافئة. فمن جوف أرضها يتفجر أكثر من إثنتي عشر ينبوعاً للمياه المعدنية الحارة وعدد كبير من ينابيع المياه الطبيعية. وعندما سألته عن أهم وأشهر الينابيع في بادن بادن أجابني انه سواء قصدت منتجع"كركلا"، أو منتجع"فريدريكزباد"فإنك ستستعيد النشاط والحيوية في أي منهما. في ذلك اليوم اكتشفت عالم"فريدريكزباد"الرائع وأمضيت جزءاً كبيراً من نهاري في رحابه. يقع المنتجع عند اقدام الحي القديم التستات، وهو مزيج من التقاليد الإيرلندية والرومانية التي سادت منذ أكثر من 125 عاماً في عالم الإستحمام. كل زاوية فيه ترمز الى روعة الهندسة وجمالها، وبالأخص جدرانه وقبته التي تتعالى في وسطه والتي هي مثال يحتذى به في عالم البناء والهندسة. سيؤثركم حتماً منتجع"فريدريكزباد"بسحره الذي يخيم على هندسته وأجوائه. وخلال فترة الإسترخاء في مياهه الدافئة سيتجدد النشاط العقلي، والنفسي، والجسدي، وستعيشون لحظات يكللها الفرح والسعادة. ومن المعروف أن الكاتب الأميركي الشهير"مارك توين"كتب إلى صديقه عن هذا المنتجع الكلمات التالية:"بعد 10 دقائق من وصولك إلى منتجع"فريدريكزباد"ستنسى الوقت، وبعد 20 دقيقة ستنسى العالم كله..."جربوه بأنفسكم لتتأكدوا من صحة ما قيل عنه!