ها أنا من جديد عند منحدرات الغابة السوداء، وسيارة الأجرة التي أستقلها تنعطف رويداً رويداً باتجاه مدينة الينابيع الدافئة – بادن بادن، وتتغلغل في عمقها وبين أشجارها العتيقة التي كانت تخترقها أشعة شمس الصباح، فتمد بين أغصانها الوارفة وأوراقها اليانعة حبالاً من نور، تغرق الأجواء بالدفء والرومانسية. طبيعة أسطورية كانت تتمايل وتتهادى أمامي، لترسم لوحات بانورامية لمدينة تعتلي عرش الكمال. بادن بادن مدينة صغيرة مترامية في الجنوب الألماني، تسكن المنحدرات والهضاب والروابي، وتختال بحلة الجمال على مدار العام. ولكن ما يميزها عن غيرها هو أنها تختزن في حناياها سراً غريباً... إنه الحنين للعودة إلى ربوعها. ولذلك، أرجعني ذلك السر إليها علني أفك رموزه وأكتشف غموضه. اليوم الأول يتحول الحلم إلى واقع على أرض بادن بادن، وبالأخص عندما يزورها الربيع، فيطرز الطرقات والممرات والساحات ببساطه المزركش، فتبدو المدينة كحسناء بهية المنظر، وردية الوشاح، ونابضة بالحياة بعد شتاء بارد وطويل. المناظر الطبيعية كانت تتكرر الواحد تلو الآخر وسيارة الأجرة تستكمل رحلتها في عمق البلدة لتتوقف بعد أقل من ربع ساعة أمام فندق «برينرز بارك وسبا» Brenners Park-Hotel & Spa الرابض وسط حديقة ساحرة. وهناك سرعان ما تأهب ذلك البواب الألماني الشاب لنقل أمتعتي إلى «الجناح الملكي» Royal Suite مكان إقامتي. في كل زاوية من هذا الصرح التاريخي سيعيش النزلاء عصر الفندق الذهبي، الذي استقطب عبر تاريخه المديد شخصيات عالمية سجلت في دفتر التواقيع أجمل كلمات المديح والإطراء. فسواء كنتم تعبرون بهوه الفسيح نحو غرفتكم أو جناحكم، فإن مظاهر الترف والرفاهية تحلق بالزوار في آفاق ممزوجة بأصالة التقاليد الألمانية الرائدة في فن الضيافة والخدمات. نسمات محملة بأريج الزهور صافحت أنفي، وأنا أعبر الطرقات الضيقة المتفرعة من الفندق قاصداً منتجع «كراكلا» Caracalla Spa للمياه المعدنية الدافئة. عند المدخل كان صوت خرير المياه المتدفقة في مسابحه الخارجية وبركه الداخلية يعلن أن وقت الاسترخاء والرفاهية أصبح مطلوباً. وكم يمر الوقت مسرعاً في أروقة «كراكلا». ففي غمرة مياهه التي يقال إنها تساعد على الشفاء من الكثير من الأمراض وبخاصة الجلدية، وفي غرف السونا المتناثر بعضها في أحضان الغابات المحيطة به، يشعر الزائر بأنه نسي إيقاع الحياة المثقل بالهموم والمتاعب، وعاش تجربة مكللة بإاستعادة النشاط والراحة النفسية. وتدور الحياة خارج المنتجع، فبعد ساعات من النقاهة في «كراكلا» وجدت نفسي في أحد مطاعم البلدة الفخمة «لي جاردن دي فرانس» Le Jardin de France. والمطعم حديقة فرنسية مملوءة بالأطباق الشهية التي يتقن جيداً أصحاب المطعم المتحدّرون من أصول فرنسية فن تحضيرها وتقديمها في إطار يستحق «نجوم ميشلان الثلاث». ومن المعروف أن تلك النجوم تمنح للمطاعم التي تولي أهمية كبرى لجودة الطعام وخصوصيته، وتنوع قائمة المشروبات، فضلاً عن السعر المقبول، والجلسات الاستثنائية، وذلك المطعم الفرنسي يستحقها بجدارة. النهار كان يشارف على نهايته، والليل كان يلوح في الأفق، وكنت أسير مع غيري من الناس عبر طرقات بادن بادن المضاءة بمصابيح الغاز القديمة، قاصداً صالة «كورهاوس» Kurhaus لحضور إحدى الحفلات الفنية. وبمقدار ما استمتعت بالعرض الفني، كان إعجابي مضاعفاً بهندسة الصالة التي نقلتني إلى ماضي بادن بادن العريق، وعرضت أمامي روائع الأعمال الهندسية التي راجت في أوروبا منذ حوالى مئتي عام. فالصالة والكازينو المتاخم لها، يجتمعان معاً على بساط من العشب الأخضر، ليقدما أحد أجمل معالم البلدة السياحية، وأكثرهما جذباً لأصحاب المال والثراء. اليوم الثاني نسائم الربيع الرقيقة لفحت وجهي وأنا أقف على شرفة الفندق أراقب شمس الصباح وهي تتسلل ببطء من وراء الجبال، لتسكن أحضان بادن بادن ليوم كامل. وكم بهرني ذلك المنظر البديع الذي لا يغدق الحرارة فقط على البلدة وضواحيها، بل يشعل أيضاً الدفء في المشاعر والقلوب. تركت تلك اللوحة الصباحية تتلاشى، لأدخل متحف «فريدر بيردا»Museum Frieder Burda، وهناك استقبلتني شمس الفن التي أشرقت على مئات اللوحات الزيتية والتعبيرية والتجريدية التي تتنافس في ما بينها، لتقدم إلى محبيها فسحة من الفن والإبداع. وأترك المتحف لأطلق العنان لروح المغامرة، بحيث قررت ركوب المنطاد الهوائي لمشاهدة بادن بادن من فوق. هكذا، حلقت تحت سماء زرقاء صافية، واقتربت من الغابة السوداء، وتأملت ولو من بعيد بادن بادن الغارقة في حلم جميل لا تستطيع الاستيقاظ منه. وألقيت نظرة على منازل المدينة وقصورها المشيدة على ضفتي نهر «أوس». وكم بدا الانسجام جلياً بين المدينة والنهر الذي ينساب بخفة ودلال في وسطها، وكأنه لا يريد أن يعكر أجواء السكينة والهدوء المخيمين عليها. كما شاهدت جبل «مركير» Merkur وقمته التي يصل ارتفاعها إلى 1291 قدماً، فقررت الصعود إليه عند العودة إلى الأرض. ها هو قطار السكك الحديد المعلقة ينطلق بي مع غيري من السياح إلى الجبل المعروف بأنه أكثر أقسام الغابة السوداء الشمالية شهرة، ويتهادى بين الغابات ووسط طريق شديدة الانحدار، بحيث شعرت بأنه يتطلب مني القيام بمحاولة دفع القطار بنفسي إلى الأعلى ليصل إلى المحطة. رحلة الخمس عشرة دقيقة تكللت بالنجاح، وأوصلتني إلى ساحة فسيحة تحتضن مطعماً، ومقاعد خشبية للاستراحة، وبعض الأراجيح. تكررت المناظر التي شاهدتها من المنطاد الهوائي: المدينة، وادي «الراين»، جبال «الفوج»، والغابة السوداء المميزة بكثافة أشجارها الضخمة بحيث يتعذر على نور الشمس اختراقها، ولذلك تحمل اسمها الحالي. ساعات ممتعة أمضيتها في أعالي الجبال، ولما باشرت الشمس بتلوين كبد السماء باللون الأحمر، كنت على موعد مع بعض الأصدقاء في مطعم «فاينشتوبه بالدرايت» Weinstube Baldreit الكائن على تلة في القسم الخلفي من أحد أحياء المدينة. في باحة المطعم الخارجية المرصوفة بالحصى والمحاطة بالمباني التاريخية جلسنا حول طاولة خشبية، وبدأت الأطباق الألمانية بالتوافد. طبق «فلامكوخن» Flammkuchen الشبيه بالبيتزا كان مطلبي، لأنتقل بعدها إلى الفندق لقضاء ليلتي الثانية. اليوم الثالث بادن بادن مدينة يسكنها العشق ويدق على أوتار القلوب سيمفونية لم تعزف بعد. فأين ما جال النظر ستشعر وكأنك في مكان لا يشبه سواه، رصيده كنوز طبيعية للينابيع العلاجية، وطبيعة عذراء لم تشوهها يد الحداثة، فتركت أشجارها الباسقة مترامية على أطراف الطرقات، وحول جوانب المباني والفنادق والشوارع. ففي شارع «لشتنتالر اليه» Linchtentaler Alle المظلل بالأشجار مررت بين أهم متاجر المدينة الراقية، وعبرت جسوره المزدانة بالنقوش المحفورة بعناية ودقة. وعشت سحر هذا الشارع الذي لا يزال يحافظ على مكانته كأحد أهم الشوارع التجارية في العالم منذ أكثر من 350 عاماً. ولأن المياه المعدنية الدافئة جزء لا يتجزأ من تاريخ المدينة وثقافة أهلها، تركت خطواتي تأخذني إلى أقدام تلة «فلورنتنربرغ» Florentinerberg التي تحتضن بقايا الحمامات الرومانية التي كان يستخدمها الجنود الرومان منذ أكثر من ألفي عام. فكم من جندي باسل استحم هنا، واسترخى في غمرة المياه لاستعادة نشاطه وعافيته قبل التوجه إلى المعارك. وكم من سائح وقف في هذا المكان بالذات ليستمع إلى تلك القصص القديمة، وليشاهد الينابيع الحارة التي لا تزال تتدفق من عمق 6500 قدم. الساعة كانت تشير إلى الثانية ظهراً وكنت أتناول طعام الغداء في مطعم «ريتزي» Rizzi الشهير بموقعه الرائع وسط إحدى حدائق المدينة. وفيما كنت أتناول الطعام، كنت أراقب الحياة وهي تدب في الحديقة الجميلة بحركة ناسها ودروبها الصغيرة التي رسمها وقع الأقدام عليها، تهادت إلى مسمعي موسيقى «الرقصة الهنغارية الرقم 5» للمؤلف الموسيقي الألماني الشهير يوهانس برامس، فتذكرت أن أقوم بزيارة المنزل الذي كان يمضي فيه الموسيقي فصل الصيف بين عامي 1865 - 1874. دقائق قليلة كانت الحد الفاصل بين المطعم ومنزل برامس المعروف باسم «ليشتنتال الرقم 8». أحسست بروح الخلق والإبداع تفوح في زوايا المنزل، وبخاصة عندما دخلت الغرفة الزرقاء التي كان يمضي فيها برامس أكثر أوقاته ليضيف إلى مكتبة الموسيقى العالمية سيمفونيات خالدة. يمر الوقت في بادن بادن مسرعاً، فما إن تشعر بأن الرحلة قد قاربت على الانتهاء سيعز عليك الفراق. وعندما حضر الليل بنجومه الفضية، وأطل القمر في جوف السماء، وضحكت نسائم الربيع المشبعة بأريج الزهور والورود، كنت على مسافة قريبة من فندق «برينرز بارك وسبا» لألملم أغراضي، وأحزم حقيبتي، لأترك في صبيحة اليوم التالي مدينة أحن للعودة إليها على الدوام.