كم يبدو مضحكاً ذلك الناقد الفرنسي الذي تذكر فجأة ان ثمة في الأفق جو "أيار 68" النضالي التقدمي، فوقف محتجاً حين قيل له ان فيلم الافتتاح سيكون"العمى". وقال:"فيلم أميركي آخر لافتتاح المهرجان". لاحقاً حين عرف ان الفيلم ليس اميركياً ولا يحزنون ابتسم مرحباً. كثر غيره اعتقدوا الأمر نفسه قبل أن يتبين لهم ان"العمى"فيلم عن رواية برتغالية لصاحب نوبل خوسيه ساراماغو، لمخرج مكسيكي ومن بطولة فنانين آتين من شتى اللغات والبلدان. لمرة إذن، تسري كوزموبوليتية"كان"على افتتاحه الذي يعلن مساء اليوم انطلاق فعاليات ايام المهرجان. للوهلة الأولى خيل لكثر ان السياسة لن تكون حاضرة بقوة أو في شكل مباشر على الأقل. ولكن منذ الآن يمكن القول ان أحداث لبنان الدامية فرضت نفسها. إذ ما أن تنتبه الناس هنا الى انك لبناني، حتى تنهال عليك الأسئلة القلقة. في هذا الإطار، لعبت الصدفة دوراً اضافياً، إذ من السينمات العربية لا تحضر في هذه الدورة سوى ثلاثة أفلام اثنان منها يتحدثان مباشرة عن"حروب لبنان"، فيما الثالث فلسطيني يتحدث عن القهر الفلسطيني الذي لا يبعد هو الآخر عن الحروب اللبنانية. فإذا كانت حرب"تموز 2006"حاضرة من خلال فيلم اللبنانيين حاجي توما/ جريج، وفي فيلمهما هذا"بدي شوف"بخاصة من خلال كاترين دونوف، فإن حرب الغزو الإسرائيلي العام 1982، حاضرة من خلال الفيلم الإسرائيلي/ الفرنسي"فالز مع بشير"المتحدث عن ذكريات مخرجه آري فولمان حول أحداث صبرا وشاتيلا. أما الفيلم الفلسطيني، الذي بدأ منذ الآن يستقطب الاهتمام بغزة وما يدور فيها، فإنه يربط المسارين والمصيرين اللبناني والفلسطيني في بوتقة المهرجان. طبعاً لا يعني هذا ان الدمار الجديد للبنان سيشغل بال المهرجانيين طوال الوقت. فهناك في"كان"، ومنذ مساء اليوم، زحام سينمائي حقيقي يمتلئ بكبار السينمائيين وبالأفلام التي باتت تقول ان السينما المستقلة ? بما فيها خصوصاً السينما الأميركية المستقلة ? تكاد تصبح جزءاً اساسياً مما هو سائد في سينما اليوم. وهنا في"كان"على رغم ان اليافطات الإعلانية الصاخبة التي تملأ الجدران والأعمدة وواجهات الفنادق، هي للأفلام الجماهيرية المليئة بالعنف والجنس والبطولات الخارقة، فإن الصالات وأفلامها تجعل السينمائي يحسب وكأنه في"سانداس"مهرجان السينما الأميركية المستقلة الأول، ما يشي بأن أموراً كثيرة تتبدل في ملكوت الفن السابع. وبالتأكيد فإن نجومية وودي آلن وكلينت ايستوود والأخوين داردين وتشارلي كوفمان وكوستوريتسا وسودربرغ وعشرات غيرهم من طليعي الإبداع السينمائي في عالم اليوم، سوى خير دليل على هذا. منذ اليوم، وقبل ساعات على الافتتاح، من الواضح ان الجمهور"الكاني"العريض ينتظر وودي وأصحابه، أكثر كثيراً مما ينتظر شارون ستون أو مادونا او حتى سكارليت جوهانسون أو هاريسون فورد. في"كان"المخرجون هم الملوك، وأفلامهم هي تاج المهرجان. أما الباقي فألوان وصخب وموسيقى ذات ضجيج. وفي انتظار تفريق لجنة تحكيم شين بن بينها، يقول الناقد الفرنسي الصديق، إذ يطمئن الى ان فيلم الافتتاح ليس"اميركياً امبريالياً"، ان السينما تتغير كثيراً، ومنذ سنوات أوصلت الى ذروة اليوم... وإن هذا التغير يسير نحو الأفضل. ترى هل ثمة، حقاً، تغيير افضل من ذاك الذي يجعل الافتتاح لفيلم مأخوذ عن رواية فاز صاحبها ? وعنها تحديداً ? بجائزة نوبل. وعرف مخرجه تحديداً عبر فيلم برازيلي هو"مدينة الله". وهل ثمة، حقاً، تغيير افضل من ان يكون الفيلم المنتظر أكثر من غيره في"كان"هو فيلم أميركي ? هوليوودي يعيد الاعتبار الى تشي غيفارا؟ مساء اليوم، وسط صخب الحديث عن لبنان وحروبه وأحزانه، تنطلق إذن أول دورة ل"كان"بعد أعوامه الستين الأولى، ببرنامج يقول: السينما في خير طمئنونا عنكم.