سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الحياة" تنشر فصولاً من مذكرات المغربي "عمر الناصري" رجل الإستخبارات الفرنسية الذي تسلل إلى "القاعدة" . أعدائي يسهلون مهمتي ... ومعسكر "خالدان" يجمعني بمجاهدين متعددي القوميات 3 من 3
من المفارقات المثيرة في حياة "عمر الناصري" اسم مستعار أنه أدرك فور وصوله الى مشارف أفغانستان وقبل ولوجه ديار العرب المجاهدين هنالك، أن في يديه رصيداً حقيقياً هو أمين وياسين اللذان عرفهما هنالك في بلجيكا وهما يهربان السلاح والمتفجرات للمتطرفين الجزائريين. على رغم أن الرجلين لم يصارحاه بأنهما تدربا في أفغانستان وانهما على صلة وثيقة بالمجاهدين، إلا أنه استنتج من تحركاتهما ولياقتهما أنهما شخصان استثنائيان، فقرر أن يجرب نفوذهما، فكانا بحق مفتاحاً له إلى المعسكرات، التي غالباً ما يحتاج البعض شهوراً للوصول إليها، وبعد الخضوع لاختبارات قاسية. بعد أن فشل جيل في التخلص من الناصري ونجاح الأخير في إثبات عمالته رسمياً لدى جهاز الاستخبارات الفرنسي الأم، كلفه جيل بمهمة في تركيا لتحييده عن التأثير، كما يرى الناصري. لكن هذا الذي تنبه لكل خطوات جيل فضل بعد أسابيع في تركيا أن يتقدم نحو الجبهة في أفغانستان. المنجم الذي كان يشغل ما في داخله فضول الغربيين في فترة انفض فيها سامر الجهاد الأفغاني. وافق جيل على المقترح لكنه لم يكن واثقاً من قدرة الناصري على النجاح في مهمة شاقة كتلك، فنصحه بعدم الذهاب. إلا أن الناصري أصرّ على أن يجرب حظه، فشرب آخر كأس ودخن آخر سيجارة في تركيا... وغادر إلى باكستان. هنا حلقة ثالثة أخيرة من المذكرات التي تصدر كاملة عن مكتبة العبيكان في الرياض: أول من تلقى"عمر الناصري"في باكستان بالأحضان"جماعة التبليغ"التي تمكن في أول خروج له معهم أن يزيدهم أنصاراً. ما جعلهم يتمسكون به أكثر، إلا أنهم لم يكونوا المجاهدين الذين يبحث عنهم. مضى حتى قاده حظه إلى شخص يعرف ياسين وأمين، ليوصله إلى الخطوة الأولى التي انتهت به في غضون أسبوعين إلى معسكر"خالدان"العربي، في صحبة الدليل. بإيعاز من الدليل أوقف السائق السيارة وسمح لنا بالنزول بعد تجاوز الحدود الباكستانية - الأفغانية ومن هنا، تابعنا الطريق، الدليل وأنا، سيراً على الأقدام عبر احدى القرى وبدأنا نتسلق التلال. ومع متابعتنا السير زاد الدليل من سرعته على نحوٍ مطرد، بعد قليل أصبحتُ عملياً في حالة عدو، كنت أعرف أنني ملزم عدم التكلم معه، فلم أستطع مطالبته بالإبطاء، بعد نحو كيلومترين كنت أعاني كثيراً وبدأت أتساءل عما إذا كان يحاول الهرب مني عمداً، لم أكن متأكداً قط من قدرتي على الثقة به. بعد مدة صار بعيداً عني حتى بتُّ غير قادر على رؤيته، كنت وحيداً بين الصخور السوداء، بدأت أتساءل: أمن الممكن أن يعرف أنني جاسوس؟ أن تكون الأيام القليلة الأخيرة مكيدة مُحْكَمة لقتلي؟ تذكرت الفيلم الذي رأيته في مركز بومبيدو حيث قام المجاهدون بنصب كمين لرتل سوفياتي، وتساءلت عما إذا كان يتعين عليَّ أن استمر في اتباع الرجل، لم أكن أعرف شيئاً عنه، أو عن المكان الذي كان يأخذني إليه. للحظات فكرت بالعودة، ثم طردت الفكرة من رأسي، كنت هنا لسبب محدد، كان لابد من المثابرة مهما حصل. كل هذا من أجل"الغداء"! كنت أتصبب عرقاً جراء المشي بهذه السرعة في الجو اللاهب، وكانت ساقاي مرهقتين. توقفت لخفض رأسي وأخذ بعض النفس للتعافي، وحين رفعت رأسي، رأيت الدليل واقفاً على صخرة أمامي، ناداني: عجّل وإلا فاتتنا وجبة الغداء. منذ تلك النقطة تابعنا معاً، انحدرنا عائدين في قلب أحد الأودية، كان المكان أشبه بواحة بين حشد من التلال السوداء، كان كل شيء أخضر وندياً، واستطعت أن أرى بريق الماء في الأفق البعيد. فجأة، دويّ قوي، بام بام بام. لم أدرك سبب الدوي مباشرة، بعد قليل، أصوات أخرى. بوم بوم تات تات تات تات. عندئذ أدركت ما كان يجري: رشاشات، مدافع، تفجيرات، قذائف مورتار، كشّر الدليل قائلاً: ها قد وصلنا يا أخ. هذا معسكر"خالدان". تلك كانت المرة الأولى التي أسمع فيها كلمة"خالدان". تبعت الدليل انحداراً على سفح التلة إلى قاع الوادي حيث استطعت أن أرى بعض المباني المعششة في ممر ضيق بين جبلين عاليين. ثمة نهر كان ينحدر من الجبال ويتدفق على الوادي ويعبر المعسكر. إلى يميني كانت هناك فسحة واسعة، مستوية. وفي مكان مرتفع بعيداً إلى اليسار ثمة بقايا نوع من أنواع برج المراقبة. توقفنا أمام المبنى الأول. التفت الدليل إليّ ونظر إلى عيني مباشرة وأمرني وهو يشير إلى قدمي: ابق واقفاً هنا. أرادني أن أتسمر في المكان ذاته ثم ركض مع الممر واختفى خلف المبنى. لم تكن لدي أي فكرة عما كان سيحصل، دليل لم أكن أثق به تركني واقفاً هنا وحدي. لم أكن رأيت أي شخص آخر على امتداد كيلومترات. ما الذي كان القدر يخبئه لي هنا. كنت بالغت في المخاطرة بحياتي. لم يكونوا ليجدوا أي صعوبة في اكتشاف حقيقة كوني جاسوساً. غير أنني عدت لأحاكم بنفسي قائلاً: لو كانوا يريدون قتلي لاستطاعوا ذلك في بيشاور، أو حتى قبل ذلك، كان أبو أنس قادراً على قتلي في لاهور. لعلعة الرصاص اختطفتني من أحلام اليقظة. تات تات تات. من هذه البقعة في قلب الوادي السحيق استطعت أن أسمع أصداء الطلقات تتردد بين الجبال، كل انفجار كان يتضاعف في الجو مع صداه الخاص. بانغ بانغ بانغ. كنت قادراً على الإحساس بالتفجيرات في جسدي. بدأت أعيش الرعشة الأولى ذاتها التي أحسست بها حين أطلقت النار مع إدوار للمرة الأولى. أدركت أنني حلمت بهذه اللحظة قبل سنوات. كنت بين جبال أفغانستان وكان إطلاق النار من حولي في جميع الجهات تات تات تات تات. طردت من رأسي الأفكار السوداء، وأيقنت أنني بلغت هدفي. كنت جاهزاً للشروع في جهادي. الجاسوس المجاهد"أبو إمام" لم يستغرق وقوفي هناك أكثر من خمس دقائق حين جاء إليّ رجل وهو يعدو. كان صغير السن، في أوائل ثلاثينياته. كان يحمل رشاش اقتحام بيده اليمنى، بدا الرشاش كلاشنكوفاً، وإن أكثر لملمة. جسم الرجل كان مشدوداً على نحو لا يصدق، قوياً، وكان يتحرك مثل القطط، بهدوء ولكن بقدرٍ هائل من الدقة. كنت بالغ التأثر بحضوره الجسدي الاستثنائي إلى درجة أنني لم أنتبه، حتى بات واقفاً أمامي، إلى أنه كان قصير القامة، ربما 165 سنتيمتراً، لا أكثر. وقف الرجل وقال: السلام عليكم! عليكم السلام. ثم أخذ كيسي من يدي ورماه على الأرض. في حركة واحدة بالغة السرعة فتش جسدي كله بلمسة يده الخفيفة. حركاته كانت دقيقة، موزونة. العملية كلها لم تستغرق أكثر من ثانيتين. تحت السروال والقميص اكتشف حزامي الذي كان يحتوي على جواز سفري وأموالي. أخذ الحزام مني وسأل: معك شيء آخر؟ قلت لا، عد النقود أمامي. قال لي إنه كان سيعطيني لاحقاً ورقة أوقعها بشأن حوائجي. ثم وضع يده على ساعدي وسأل: ما اسمك يا أخ؟ قلت: عمر الناصري. فوجئ، تراجع خطوة. عاود السؤال: أهو اسمك الحقيقي؟ شعرت بالدم يصعد إلى وجهي. خجلت من نفسي. كنت أجبت غريزياً. لم أكن بعد قد تآلفت مع اسمي الجديد، وهذا الرجل العجيب كان قد أربكني. سارعت إلى تصحيح خطئي ورحت أتمتم: اسمي أبوبكر. ابتسم وقال: ذلك الاسم أخذه أخ آخر، سيتعين عليك أن تختار غيره. فكرت لثانية ثم سألت: ما رأيك باسم أبو إمام؟ قال: موافق، ذلك رائع. ثم اقتادني إلى داخل المجمع، بعد سلسلة من المباني وأنا أتبعه، لاحظت ثانية كم كانت خطواته وحركاته محكمة وموزونة. كان جسده مشدوداً مئة في المئة، مثل أسد يتهيأ للانقضاض. قادني إلى داخل مركز المجمع، إلى مبنى من الطوب ذي سقف معدني. قال أن هذا هو المسجد، وأن علي أن أجلس هناك وانتظر قدوم الآخرين. قبل رحيله انحنى علي وتكلم بصوت هادئ ولكنه حاد محذراً: يجب أن تتذكر دائماً أنك هنا لأداء فريضة الجهاد. لست هنا للتحدث مع الآخرين. نحن لا نطرح أسئلة على إخواننا. لا نميط اللثام عن أي شيء حول أنفسنا. يجب أن تبقى مركزاً على رسالتك الجهادية. أومأت موافقاً، وتابع يقول: كذلك يجب ألا تتكلم مطلقاً مع أي أفغاني. مع الأدلاّء، الحراس، الطباخين، ولا كلمة واحدة. أومأت ثانية لأبين له أنني فهمت. ثم دار واختفى بالسرعة التي كان ظهر بها، وقدماه تلامسان الأرض برفق مثل أقدام راقصي الباليه. جلست وحدي في المسجد وتركت الجو المظلم الندي يغمرني. شعرت أن جسدي ارتاح قليلاً. عيناي لم تعودا تدمعان من الشمس الحارقة. تواصلت أصداء الانفجارات وأصوات إطلاق النار مترددة في الجبال، غير أنني كنت بدأت التآلف معها. بعد دقائق هدأ كل شيء فجأة، ساد المسجد صمت كامل: لا طيور تصدح، لا قنابل تنفجر، لا شيء. كنت قادراً على سماع صوت تنفسي ونبض قلبي اللذين كانا يتباطآن بعد كل هذا الفيض من الرياضة والقلق. فجأة فتح الباب بجلبة صاخبة. خمسة رجال عمالقة تسللوا إلى المسجد. كانوا جميعاً في العشرينيات، من ذوي البشرة البيضاء والعيون الشهلاء. مع كل منهم رشاش كلاشنكوف علقه على صدره، وحزام مثقل بالقنابل اليدوية والذخائر. كانت عيون الجميع مطوقة بالدوائر نفسها التي كنت رأيتها لدى أمين وياسين. حين رآني الرجال جالساً ابتسموا واقتربوا مني. استطعت أن أفهم من لهجتهم أنهم من الشيشان، فتحدثت معهم بالإنكليزية. قدموا أنفسهم بالأسماء التي كانوا اعتمدوها: أبو أنس، أبو عمر، وأبو... تبادلنا التحية بالطريقة النموذجية، ملامسة الكتف بالكتف. استطعت أن أحس بالقوة الوحشية الكامنة في أجسادهم. كان الوقت صلاة الظهر، وما لبث المسجد أن بدأ يزدحم، استطعت أن أدرك من وجوههم أن هؤلاء الرجال كانوا من أنحاء عدة في العالم: من شمال أفريقيا، من الشرق الأوسط، من آسيا الوسطى. وفيما كانت الصلاة موشكة على البدء، تذكرت أنني لم أكن متوضئاً. درت إلى من كان بجانبي وسألته عن الحمام. أمسك بذراعي برفق ورافقني إلى خارج المسجد عبر فضاء مكشوف نزولاً إلى ضفة النهر، ثم أشار إلى مجموعة من الأكشاك بين صخور كبيرة. طلب مني أن آخذ سطل ماء من النهر وأتوضأ هناك. غمست يدي في الماء، مع أن الشمس كانت حارقة، فإن الماء كان بارداً كالثلج. أدركت أن الماء آت مباشرة من الثلوج المتراكمة على الجبال. بعد انتهائي من وضوئي، عدت إلى المسجد لإقامة الصلاة. لاحظت أن أولئك الذين كانوا متنكبين الكلاشنكوفات كانوا قد وضعوا أسلحتهم على الأرض بين أرجلهم في أثناء الصلاة. وما إن انتهينا حتى وقف الرجل الذي استقبلني عند وصولي إلى المعسكر ليقدمني إلى الجماعة وقال: هذا أبو إمام. إنه أخوكم. التحق اليوم بجهادنا. ابتسمت لجميع الرجال الذين رحبوا بي في المسجد وهتفوا: ما شاء الله! ما شاء الله! ما شاء الله! غادرنا المسجد ومشينا باتجاه المقصف الذي كان في المبنى الأول الذي كنت رأيته عند مدخل المعسكر. كان المبنى حجرياً إلا أن السقف من أغصان الأشجار اليابسة التي بدت أشبه بسعف النخيل. كنت رأيت هذه الشجيرات على الطريق إلى المعسكر. من الداخل كان السقف مبطناً بصفحات النايلون لاتقاء المطر. جلسنا جميعاً على الأرض وتناولنا نوعاً من الشوربة المصنوعة من الفاصولياء. كان الطعام مقززاً، غير أن الجوع كان قد هدني فأكلت. وحين انتهينا من وجبتنا جاءني رجل آخر وطلب مني أن أتبعه. ناولني كيس نوم رقيقاً وعدداً من البطانيات، ثم قادني عبر المعسكر إلى مجموعة من المباني الصغيرة، واقتادني إلى داخل أحدها. أبلغني أن هذا مكان نومي. نظرت حولي ورأيت أن عدداً من الأشخاص يقيمون هنا أيضاً. حوائجهم كانت مضبوطة بعناية ومركونة إلى جدران الغرفة. لم تكن ثمة أي أرضية ممهدة، فقط الأرض القاسية للجبال الأفغانية. مساءً، بعد العشاء، توزعنا على مجموعات صغيرة للتدرب على التجويد، تلاوة القرآن. كنا مقسمين إلى مجموعات وفقاً لمستوى معرفتنا الروحية. جماعتي كانت تضم خمسة من الشيشان وجزائرياً. كنا جميعاً مبتدئين. شرح لي أحد المتدربين أن الرجل الذي قدمني في المسجد كان أمير المعسكر، أبا بكر، ضحكت بيني وبين نفسي متذكراً أنني كنت، عن غير قصد، اخترت اسمه في بيشاور. ثم أفادني الرجل أن أبا بكر كان الأمير الوحيد في غياب ابن الشيخ، الذي كان سيتولى الامارة لدى عودته. بعد انتهائنا من دروسنا، تجمعنا ثانية في الساحة الرئيسية أمام المسجد. لفت أبوبكر أنظارنا. أعطى أوامره للحراس الليليين، وزودنا كلمة السر في تلك الليلة. ثم اختار أحد الإخوان ليتولى رفع الأذان فجر اليوم التالي. ثم قام أبوبكر باستعراض أحداث النهار. من دون تسمية أحد على نحوٍ مباشر، امتدح إنجازات معينة وانتقد إخفاقات محددة لبعض الإخوان. أحدهم كان في الحمام حين خرج فريقه إلى التدريب. قام أبوبكر بتذكير الجميع بأن هذا إهمال وسلوك غير قويم بالنسبة إلى أي مجاهد. ما من مجاهد إلا يبقى مهتماً بسائر إخوانه، إنها مسألة حياة أو موت. بعد أن أنهى أبوبكر كلامه. توجهت إلى المهجع، ووضعت حوائجي على الأرض الباردة. كانت درجات الحرارة انخفضت انخفاضاً كبيراً لدى غروب الشمس، وراح البرد يخترق ملابسي إلى جسدي. لم أشعر بالدفء إلا بعد بضع دقائق تحت كيس النوم والبطانيات. ما لبثت نبضات قلبي أن تباطأت، ارتخى جسدي وبدأت أفكر بكل شيء كان قد حدث. كنت قد استيقظت في بلد آخر ذلك الصباح، كنت في اسطنبول قبل أقل من شهر. والآن إنني هنا، في معسكر للتدريب مع المجاهدين، كل شيء بدا غريباً لكنه مألوف في الوقت نفسه، هذا ما كنت قد توقعته تماماً وحلمت به وتطلعت إلى ممارسته بعد مشاهدة كل تلك الأفلام، بعد القراءة عن الحرب ضد الروس. بعد الاستماع إلى كلام كل من أمين وياسين. رحت أفكر بدويّ القصف الذي سمعته ورشاشات الكلاشنكوف التي كان الإخوان يحملونها، وأيقنت أنني سأجد كثيراً من المتعة هنا. كنت منفعلاً وتواقاً لطلوع الفجر. غير أنني في اللحظات الأخيرة قبل الاستغراق في النوم أجبرت نفسي على تأمل مهمتي، تلك الليلة، وسائر الليالي التي أعقبتها في العام التالي، بقيت حريصاً على تذكير نفسي بحقيقة أنني كنت جاسوساً. أول أيام التدريب... لم أنم كثيراً تلك الليلة، فبعد نحو ساعة أو اثنتين فقط أيقظتني أصوات تقلبات النائمين الآخرين في الظلمة. حين فتحت عيني وجدت الظلام دامساً لا يزال. وفيما كنت أحاول التركيز أدركت أن وقت الصلاة الأولى كان يجب أن يكون قد حان. كان الوقت صيفاً، وأشرقت الشمس في ساعة مبكرة جداً. توضأنا وتوجهنا إلى الجامع للصلاة مع الآخرين. كان البرد لا يزال شديداً. بعد الانتهاء من الصلاة، احتشد الجميع في الساحة أمام المسجد، قسمنا أبو بكر إلى ثلاث مفارز وعيّن لكل منها مدرباً. ركضنا جميعاً إلى أمام المعسكر، حيث كانت فسحة منبسطة واسعة، كانت الشمس قد بدأت تناغي قمم الجبال وكان جسدي لا يزال متجمداً من برد الليلة الماضية. قمنا بعدد من الحركات والتمرينات الجماعية تحمية لعضلاتنا. لاحظت أن الآخرين كانوا ذوي لياقة بدنية استثنائية، فبدأت أشعر بالقلق. منذ سنوات وأنا بعيد عن جميع أنواع الرياضة وألوانها. ذلك الصباح تم إلحاقي بمفرزة يقودها مدرب اسمه أبو همام. كان أريتيرياً، وبشرته أكثر سواداً بما لا يقاس من بشرة الآخرين. حركاته كانت رشيقة، ولكن بطريقة مختلفة عن طريقة أبي بكر. لم يتوفر لي وقت كافٍ لدراسة أبي همام قبل بدء تماريننا، من دون أن ينبس ببنت شفة، بدأ الجري باتجاه أحد الجبال العالية خلف المعسكر، وحذونا حذوه. ما لبثنا أن وصلنا إلى سفح الجبل ورحنا نعدو صعوداً. في البدء بدت الحركة منشطة. شعرت بالدفء في جسدي متغلباً على الصقيع الذي كان في الليلة السابقة. غير أنني بدأت بعد نحو مئة متر، أحس بوخزة في عضلات الفخذ الرباعية. كان الآخرون سبقوني كثيراً، كنت الأخير في الرتل، كان ثمة رجل واحد على الدرجة نفسها تقريباً من البطء، غير أنه كان بديناً تماماً ويرتدي سترة واقية من الرصاص لابد أنها كانت تزن عشرين كيلوغراماً أو أكثر. لم يكن أحد مرتدياً سترة واقية، افترضت أنه طلب من هذا أن يفعل ما فعله لتخفيف الوزن. على مسافة غير بعيدة منا كان ثمة سعوديان. من الواضح أنهما كانا أكبر سناً بكثير من الآخرين، في الدرجات العليا من أربعينياتهما. كان قلبي ينبض بقوة إلى درجة أنني كنت قادراً على سماعه. واضح أن تدريبي لم يبدأ بداية موفقة. بعد نحو خمس عشرة دقيقة، اختفى باقي أفراد المفرزة بمن فيهم الرجل البدين والسعوديان المتوسطا العمر، خلف إحدى التلال. وحين وصلت إلى هناك متأخراً بضع دقائق، رأيت الجميع واقفين معاً في مكان أعلى بمئات الأمتار على سفح الجبل، كان أبو همام عاكفاً على إصدار التعليمات فيما كان الآخرون يمطون أجسادهم. وفيما كانت الأصداء تتراجع، وصلت إلى حيث كانت المفرزة. أخيراً توقفت عن الجري، غير أن قلبي كان لا يزال يخفق وساقاي بدتا مشلولتين، انحنيت لأستعيد أنفاسي، وما إن رفعت رأسي حتى رأيت أبا همام واقفاً أمامي مباشرة. قال: ما شاء الله! يا أبا إمام! رجوته أن يسمعني ورحت أقول: قبل أن يصبح أي مجاهد قادراً على القتال، لا بد له من أن يتدرب، أنا هنا من يوم أمس فقط، والآن تريد أنت، على ما يبدو، أن تقتلني حتى قبل أن أغدو مجاهداً! ابتسم أبوهمام ثانية ثم ضحك ضحكة ناعمة. وبعد ذلك دار وبدأ يتسلق الجبل قفزاً. دام جرينا نحو أربع ساعات ذلك الصباح. حين وصلت إلى المعسكر وجدتني هالكاً من التعب. أما الآخرون فكانوا مصطفين أمام المصقف منتظرين وصولي. ما إن وصلت حتى بدأ أبوهمام بقراءة التفقد منادياً كلاً من أعضاء الفريق بالاسم. وبعد إنجاز مهمة تفقدنا سمح لنا أن نشرب ماء ونتناول فطورنا. لم يكن ثمة سوى كأس شاي وكسرة خبز، غير أنني أجهزت عليهما بسرعة. وكما علمت في الأيام التالية، كان هذا يوماً عادياً في خالدان. كان الشيء نفسه سينتظرنا كل يوم. كنا سننهض من النوم قبل الفجر لنصلي، ثم نخرج مباشرة للقيام بالحركات السويدية في الساحة ثم ننطلق للتدرب في الجبال. مهمات شتى لكنها شاقة لم أكن أجري باستمرار في جماعة أبي همام، كان لدينا مدربون مختلفون في أوقات مختلفة. لم يكن الجري نفسه على الدوام، أحياناً كنا نقوم بأشياء أخرى: نقفز، نزحف، نسبح في النهر المتجمد. كنا نصطحب الأسلحة، لا لمجرد زيادة الوزن ومضاعفة مستوى الصعوبة، بل لنكون قادرين على اتقان فن نقل المعدات والمواد إلى الجبهة. ذات يوم حملنا عدداً من الصواريخ وتسلقنا بها الجبال. بعضها كان كبيراً، أطول من متر. كانت هذه نسخة أصغر من نسخ الكاتيوشا، أو عضو ستالين التناسلي، راجمة الصواريخ المتعددة التي كان السوفيات استحدثوها في الحرب العالمية الثانية. ذلك اليوم لم يكن أحد يعدو. كان يكفي أن نصمد تحت وطأة الصواريخ العملاقة. كثيراً ما كنا نجري حفاة، ليس في الصيف فقط. كنا نركض حفاة حتى فوق الصقيع أواخر الخريف. بدا الأمر مرعباً في البداية، كانت الصخور مدببة وحادة وممزقة، وكنت أعود إلى المعسكر وقدماي غارقتين في الدم. مع الزمن كان أبوهمام سيعلمني فن المشي فوق الصخور، فن قياسها بنظراتي لأحدد المكان الذي أضع فيه قدمي. علمني كيف أشكل قدمي وأقولبها وفقاً لشكل كل صخرة كي أتمكن من الانسياب على الأرض من دون أن أحس بشيء. تلك هي الطريقة التي تعلمت بها كيف أمشي مثل أمين وياسين. كان أبوهمام يجري على نحو مغاير. لم يكن جسمه مشدوداً مئة في المئة مثل جسم أبي بكر، وبقيت حركاته أقل دقة وإحكاماً. كان ثمة ملمح ملكي في حركته، ولكن مع ارتخاء. لم يكن يبدو ناظراً إلى الصخور أمامه. مرة فكرت بالأمر، إذ وجدت ان ارتياحه الى هذه الطبيعة بطريقة مختلفة عن الآخرين ينطوي على معان كثيرة. كان قد نشأ وترعرع وهو يقاتل في جبال الوادي الانهدامي في حرب العصابات ضد الحكم الأثيوبي. في ذلك اليوم كما في الأيام كلها، كان الدرس تفصيلياً على نحو يتعذر تصديقه. بالنسبة إلى كل سلاح، كل رشاش، كان مدربي الشخصي أبوسهيل يصر على تلقيني اسم القطعة وشرح نوعية الذخيرة المطلوبة. ثم كنت أتعلم إجراءات أمان كل بندقية. كان يتعين علي أيضاً أن أحفظ عن ظهر قلب عنوان الجهة المصنعة بل حتى اسم المخترع: ماركوف، كلاشنكوف. تعلمت مميزات كل مسدس أو رشاش: حجم بيت النار، الوزن والطول، طاقة السبطانة، المدى. أنسب الحالات التي يتم استخدام السلاح فيها: الاغتيالات، حرب المدن، وإلخ... أسلوب حساب مسار الطلقات المقذوفة، طريقة الفك والتركيب، كيفية المسح والتنظيف. تعين علي أن أتعلم كل هذه الأشياء قبل أن أمد يدي الى الرشاش. كنت نافد الصبر. كلما تعلمت عن سلاح جديد، كنت أريد أن أحمله بيدي مباشرة. كنت سريع التعلم، جزئياً، لأن أبا سهيل كان يمضي وقتاً طويلاً في العمل معي وحدي، لأن الشيشان كانوا متقدمين كثيراً علي. وجزئياً لأنني كنت، سلفاً، أعرف الكثير من الفترة التي عشتها مع إدوار. خلال ذلك الشهر، كنت سأتعلم فنون استخدام سلسلة طويلة ومتنوعة من الأسلحة. عرفني أبوسهيل بمسدسات ورشاشات لم يسبق أن رأيتها من قبل. كانت تلك، بأكثريتها، أسلحة ألمانية وروسية من مخلفات الحرب العالمية الثانية. في الأسابيع الأولى، تدربت على ماركوف بي أم، مسدس سوفياتي نصف آلي اختراع في الأربعينيات من القرن الماضي، التوكاريف تي تي، مسدس نصف آلي، استخدمه السوفيات في الحرب العالمية الثانية، الوالتر بي بي كي، مسدس ألماني كان يستخدمه اللوفتوافه سلاح الجو كنت أعشق الوالتر بي بي كي، إذ كان المسدس الذي درج جيمس بوند على حمله، السيغ ساور، نسخة معدلة لمسدس كان الألمان اخترعوه خلال الحقبة النازية، واللوغار وهو السلاح الذي صممته المصانع الألمانية للأسلحة والذخائر أوائل القرن العشرين. الاسم الحقيقي للسلاح هو مسدس بارابيلوم. وكلمة بارابيلوم هذه مأخوذة من شعار الشركة اللاتيني: سي فيس باسم، بارا بيلوم Si vis pacem, para bellum، إذا أردت السلم فاستعد للحرب. الرشاش عوزي بعد أن تعلمت تلك الأمور، صار أبوسهيل يعلمني كيفية استخدام مدافع رشاشة أكبر. بداية تدربت على العوزي، الرشاش الذي كنت أمقته كثيراً. وهو رشاش خفيف صممه عوزييل غال في أعقاب حرب 1948 العربية ? الإسرائيلية. بعد ذلك، تدربت على رشاشين حربيين سوفياتيين إضافيين: الديغتياريف دي بي، الذي هو رشاش خفيف من عشرينيات القرن العشرين، والآربي دي الذي تم استحداثه بعد وقت طويل. إنه رشاش يذخر بحزام ثنائي المنصب الموصول. أخيراً علمني أبوسهيل عن الأسلحة الأسطورية التي اخترعها ميخائيل كلاشنكوف. أولاً بندقية كلاشنكوف ايه كي ? 47 وهي بندقية اقتحام تعمل على الغاز. وقد حملت اسم المخترع. هذه هي البندقية التي قام السوفيات بتزويد الدول العميلة بها في طول العالم وعرضه، استخدمها الفييت كونغ كما استخدمها الساندينيون. وفي مناطق من أفريقيا ثمة آباء يسمون أولادهم الذكور كلاش تكريماً للبندقية ومخترعها. وبعد ذلك تعلمت أسلوب استخدام البي كي والبي كي أم. ... وغيرها من الأسلحة الثقيلة. وقال إنهم تدربوا على أنواع شتى من المتفجرات وأساليب الاغتيالات وحرب العصابات. كذلك كنت أحب الاختبارات التي كان أبو سهيل يجريها لي، لأنني كنت أنجح دائماً. حين علمني الكلاشنكوف حدد لي الوقت ليرى المدة التي تلزمني لفك الرشاش وتركيبه مغمض العينين. في المحاولة الأولى كان معظم المجندين يستغرقون نحو دقيقتين. أما أنا فكنت أنجز العملية في أقل من ستين ثانية. كنت أرى مدى إعجابه وهو يهتف، ما شاء الله! يا أبا إمام، ما شاء الله! كاد قلبي أن يتوقف عن الخفقان بسبب مجاهد "مطارد" بعد الانتهاء من التدرب على السلاح، كنا نؤدي صلاة المغرب ثم نجتمع في المقصف. كنا نتناول الطعام معاً. كان ثمة أفغانيان تَولَّيا مهمة إعداد الطعام يقيمان في مكان بجانب المقصف، قريباً من مدخل المعسكر، وخلف كوخهما مباشرةً، عند أسفل الجبل، كان هناك كوخ صغير لإعداد الخبز. أحد الأفغانيين كان أصم وأبكم، غير أن ذلك لم يكن مشكلة على الإطلاق لأننا كنا ممنوعين بحزم من التكلم مع الأفغان. تمثلت المشكلة في كون الطعام سيئاً للغاية، والطبق نفسه كل يوم. كنا جائعين دائماً، ما من أحد إلا ونقص وزنه كثيراً منذ مجيئه إلى"خالدان". لوَجْبَتَيْ الغداء والعشاء كنا باستمرار نتناول نوعاً من الشوربة المخلوطة المصنوعة من البقول. نادراً ما كنا نتناول اللحم، رغم وجود أعداد من فراخ الدجاج المتراكضة حول بيت الطباخين، وقيامهم بين الحين والآخر بطبخ أحد الفراخ، وهو الأمر الذي كنا نكتشفه من الرائحة. كان هناك، دائماً، درس ديني بعد العشاء. لم يكف الأمير والمدربون عن تذكيرنا المطرد بأن هذا كان العنصر الأكثر أهمية في الارتقاء إلى مرتبة مجاهد. فقبل الشروع في القتال في سبيل الله، يتعين علينا أن نفهم ونستوعب ما كان سبحانه دعانا إلى فعله. في بعض الليالي كنا نمارس التجويد وفي ليالٍ أخرى كنا نعكف على دراسة القرآن والحديث، جملة الأقوال والأفعال المأثورة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم. أحياناً كان المدربون يتولون تعليمنا. وأحياناً أخرى، كان مجندون آخرون، عرب بأكثريتهم، لأنهم عموماً أعلى مستوى تعليمياً، يقومون بتعليمنا. تعلّمنا أشياء كثيرة خلال هذه الدروس المسائية المنتظمة، غير أن الجزء الأكبر مما تعلمناه كان ذا علاقة بقوانين الجهاد وشرائعه. أما أسوأ يوم مر في حياتي فهو ذلك الذي انكشفت فيه حقيقتي لعبد الكريم الذي كان القاسم بيننا، إجادتنا للغة الفرنسية دون سائر المجموعة. كان عبدالكريم تواقاً للكلام. وبسبب ضعف لغته العربية لم يكن يستطيع التحدث مع معظم الإخوان الآخرين. أما أنا فكنت، بحسب كلامه، أتكلم الفرنسية مثله، وقد أسعده ذلك بسرعة فائقة. بدأ يتكلم عن الجماعة الإسلامية المسلحة. وما لبث أن وصل إلى موضوع الأنصار. كان الكلام يتدفق منه، واستطعت أن أرى من حركات يديه أنه كان يزداد انفعالاً باطراد. عيناه كانتا تتحركان بسرعة يميناً وشمالاً، كما لو كان خائفاً من شيء معين. ثم التفت إليَّ على نحو مفاجئ وراح يرغي فيما بدأت عيناه تتسعان وتجحظان من محجريهما قائلاً: أنت، نعم أنت جاسوس. أنا أعرف ذلك. الفرنسيون بعثوك للتجسس عليّ. كاد قلبي يتوقف عن الخفقان. كيف عرف؟ ما الذي كنت سأفعله؟ كان جالساً والكلاشنكوف في حضنه. وأنا أعزل. كنا وحدنا، على مسافة مئات الامتار من الاخوان الآخرين. راح عقلي يدور بسرعة. تعين علي أن أقول شيئاً. قلت وأنا أضحك: سارع إلى استغفار الله أيها الأخ! هل تظن أنك على هذه الدرجة من الأهمية حتى يبالي الفرنسيون بإيفاد عميل إلى افغانستان البعيدة من أجلك أنت؟ ثم وقفت. قال: لا، بالطبع أنا آسف. أرجوك تعال اجلس. واشرب بعض القهوة معي. راح يشرح أنه كان قد عاش في خوف وهو في فرنسا، أنه كان ملاحقاً ومراقباً باستمرار. وحين سمعني متحدثاً بالفرنسية عن الجماعة تذكر كل ما كان قد سبق أن تعرض له وعانى منه. عدت إلى الجلوس وضحكت بيني وبين نفسي. كنت واثقاً من أن هذا الرجل لم يكن مستعداً لإفلات الشخص الوحيد الذي كان يستطيع أن يتحدث معه في المعسكر. أكمل المجاهد الجاسوس عمر الناصري قصته في معسكرات"خالدان"باختزال وهو يعيش حياة استثنائية مليئة بالتدريب على المتفجرات والاغتيالات في الظروف كافة. حتى إذا أيقن أمراؤه أنه أصبح جاهزاً أرسلوه إلى أوروبا لتشكيل خلية تنتظر أمر المجاهدين في أفغانستان. وهم لا يدرون أن ضابط الاستخبارات الفرنسية في تركيا ينتظره لتكليفه مهمة في بريطانيا، إمعاناً في مخادعة رفاق المعسكر. لكن الخداع سريعاً ما استخدمته الاستخبارات ضد جاسوسها أيضاً. وهو الذي استدعته إلى دكار وأغرته بالفنادق والنساء والأموال لينطلق في مهمة جديدة شريطة أن يتخلى عن قراره بالزواج من فاطمة التي رآها حلماً في أفغانستان والتقاها فعلاً في باريس. إلا أن حب فاطمة كان أقوى من أن ينسى.