تُثير قضية إقالة برونو غيغي Bruno Guigue نائب محافظ مدينة سانت Ville de Saintes بفرنسا، لأنه نشر مقالاً على الإنترنيت انتقد فيه سياسات إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، واتهم القناصة الإسرائيليين بقتل فتيات المدارس الفلسطينيات عند خروجهن من مدارسهن، والذي تهكم فيه على إيقاف تعذيب الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية أيام السبت مراعاة للقانون اليهودي - تُثير هذه القضية كثيراً من علامات استفهام حول السلوك الذي تنتهجه بعض الحكومات الغربية إزاء تطبيق مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 كانون الأول ديسمبر عام 1948. أما بالنسبة للحكومة الفرنسية تحديداً، والتي هي الطرفُ الرئيسُ في هذه القضية، فإنَّ سلوكها هذا يتعارض كلّياً مع مبادئ الثورة الفرنسية التي أطلقت"إعلان حقوق الإنسان والمواطن"الذي هو القاعدة الأولى التي يقوم عليها دستور الجمهورية الفرنسية. هذه القضية تضعنا وجهاً لوجه أمام أزمة سياسية وحقوقية تَتَفَاقَمُ بشكل مطّرد في عديد من البلدان الغربية، وهي التناقض الصريح بين الإعلان عن التمسّك بمبدإ حرية التعبير والضمير المنصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي الدساتير الأوروبية دونما استثناء، وبين العمل بمقتضيات هذا المبدإ، خاصة حينما يتعلق الأمر بانتقاد إسرائيل، وبإبداء الرأي بخصوص القضايا المتعلقة باليهودية والصهيونية العالمية. ويدخل ضمن هذا الإطار محاكمة الأكاديمي البريطاني ديفيد إيرفنغ، والحكم عليه بالسجن وفصله من عمله ومنع نشر كتبه التي تشكّك في الأرقام المعلنة عن ضحايا المحرقة، وكذلك محاكمة الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه غارودي، والحكم عليه بالسجن والغرامة بسبب كتابه"الأساطير المؤسِّسة للسياسات الإسرائيلية"، وإلغاء الحكومة الفرنسية قرار لجنة الأساتذة المشرفين على مناقشة رسالة الدكتوراه للباحث الفرنسي هنري روكيه، لأنها تشكّك في أرقام ضحايا المحرقة. لقد وضعت الحكومة الفرنسية قانوناً يمنع التشكيك في الأرقام المعلنة عن عدد ضحايا المحرقة. وبموجب هذا القانون يتم محاكمة المفكرين والباحثين الأحرار. ولكن من وجهة النظر القانونية المحض، وإعمالاً لقاعدة"دستورية القوانين"المعتمدة من الجميع، فإنَّ هذا القانون يََتَنَاقَضُ تناقضاً كاملاً مع الدستور الفرنسي، ومع إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي جاءت به الثورة الفرنسية عام 1789 والذي تعدّه فرنسا مفخرة لها ورسالة حضارية قدمتها للإنسانية. أما في الولاياتالمتحدة الأميركية، فإن الهجوم العنيف على الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، واتهامه باللاَّسامية، لأنه انتقد سياسات إسرائيل الفلسطينية، وشبَّهها بسياسات الأبارثايدالفصل العنصري في جنوب أفريقيا، هو انتهاك صريح لوثيقة الاستقلال وللدستور الأميركي، فضلاً عن أنه خرق للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لأن الرئيس كارتر عبّر في كتابه"فلسطين: السلام لا الفصل العنصري"عن رأيه بحرية كاملة، وبعيداً عن أي ضغط من أي نوع كان، بعد أن تخفّف من أعباء المنصب ومن قيوده الثقيلة. وهذا حقٌّ من الحقوق الأساس لأي مواطن أميركي. وقبل كارتر هوجم النائب الأميركي السابق بول فيندلي صاحب كتاب"من يجرؤ على الكلام ؟"، والباحث الأكاديمي آرثر بوتز صاحب كتاب"أكذوبة القرن العشرين"وغيرهما، بسبب آراء عبّرا عنها في كتب ألفاها في إطار حرية الرأي والتعبير التي هي ركن من أركان النظام الأميركي. وفي ألمانيا هوجم غيرمار رودلف،وهوجمت المستشرقة آن ماري شيمل التي خدمت الثقافة والحضارة العربيتين الإسلاميتين، والتي كانت صوتاً غربياً ناطقاً بالحقّ يكشف عن الحقائق ويدحض الأباطيل، والتي ماتت على دين الإسلام، يرحمها اللَّه. وهناك باحثون كثر في الغرب تعرضوا للمضايقة الشديدة والنقد العنيف ومنع كتبهم ودراساتهم من أن تُنشر. وهذا أمرٌ يؤكّد أنَّ ثمّة رقابة على المطابع، وهي ممارسة تَتَنَافَى تنافياً مطلقاً مع الحريات العامة التي تقوم أنظمة الحكم في الغرب على أساسها، والتي هي من مميّزاتها ومن البضاعة التي تسوّقها وتروجها في أنحاء العالم. هذا التناقض الصارخ الذي يطبع سلوك بعض الحكومات الغربية، يطرح على بساط البحث قضية بالغة الأهمية، وهي صدقية السياسات الغربية المعلنة التي تتحكّم في مسار الأحداث التي تجري في عالم اليوم. ذلك أن"الكيل بمكيالين"يتعارض كلياً مع منطق القانون من حيث هو قانون، كما يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان ومع الحكم الرشيد. وممّا يُثير الحيرة والاستغراب أيضاً، سكوت الإعلام الغربي عن توجيه النقد لهذه السلوكيات التي تطعن حقوق الإنسان في الصميم، على ما يعرف عن هذا الإعلام من مهنية عالية وحساسية شديدة إزاء انتهاكات حقوق الإنسان التي تقع في مناطق عديدة من العالم. وفي حالة ظهور مفكرين وباحثين ورجال صحافة وإعلام شجعان يناهضون هذه السلوكيات الغربية الشاذة الخارجة عن القانون، يكون مصيرهم مماثلاً لمصير الضحايا أنفسهم. إنَّ إقالة المسؤول الفرنسي التابع لوزارة الداخلية الفرنسية، من منصبه"عقاباً"له على نشره مقالاً ينتقد فيه بضمير حرّ السياساتِ الإجراميةَ التي تمارسها حكومة إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني، هو حَدَثٌ يفضح طبيعة السياسة التي تنتهجها الحكومة الفرنسية إزاء قضايا العدالة الإنسانية وتجاه الأزمات التي تعاني منها الشعوب المحرومة من حقّها الطبيعي في الحرية والكرامة والاستقلال، وفي المقدمة منها الشعب الفلسطيني الذي يخضع لحصار رهيب ولحملة بطش وإبادة مروعة، من طرف إسرائيل التي تبسط نفوذها على الغرب وتجعل الحكومات الغربية تدافع عنها بالباطل وتقيها من الأخطار التي تهدّدها إن سمحت للمفكرين الغربيين الأحرار بفضح الجرائم التي ترتكبها في مقالاتهم ومؤلفاتهم ود راساتهم. ولكن السؤال الذي يطرح في هذا السياق، هو ما موقف المجتمع الدولي بصورة عامة، من هذا الضغط الذي يبلغ درجة الإرهاب الفكري، أو"الإرهاب القانوني"إن صحَّ التعبير، الذي تمارسه بعض الحكومات الغربية ضدّ المفكرين والباحثين من صفوة مجتمعاتها ؟. ما تفسير حالة الصمت المطبق الذي يُواجَه به هذا الإرهابُ الذي تمارسه إسرائيل والصهيونية العالمية ضدّ المجتمع الإنساني، بحيث لا ينشر ولا يذاع إلاَّ ما فيه تأييدٌ لها لا تشوبه شائبة ؟. ألا يعني هذا الموقف أن العالم يخضع للضغوط الصهيونية الرامية إلى تفسير التاريخ في جميع مراحله على هواها وبما يحقّق لها أهدافها اللإنسانية ؟. أليس الوقت مناسباً لإطلاق حملة تضامن مع المسؤول الفرنسي الذي أُقيل من منصبه لكشفه جرائم إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني التي هي جرائم ضدّ الإنسانية؟. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو