الكلمة الأخيرة ولدت في بلاد فارس التي تدعى اليوم إيران ونشأت في روديسيا التي باتت زيمبابوي. وكما نعود عند الاقتراب من الحافة الى البدء، تكمل دوريس ليسينغ الدورة وتسترجع الماضي الذي بات آمناً بعد رحيل الجميع. وحدها الآن مع ابنها بيتر بعد وفاة نجلها الآخر جون بنوبة قلبية في 1992. تقول ان"ألفرد وإميلي"هو كتابها الأخير بعد ستين سنة من الكتابة أنتجت فيها أكثر من خمسين كتاباً. في الجزء الثاني من مذكراتها الصادر عن دار"هاربر كولينز"رواية صغيرة عن حياة والديها المفترضة لو لم تقع الحرب العالمية الأولى، واسترجاع حياتهما الحقيقية في آسيا وأفريقيا. كرهت والدتها الممرضة التي كانت"دافئة القلب ولكن غير حساسة"، وأدركت بعد زمن، أن وصول الجرحى في الشاحنات الى المستشفى أثّر في والدتها. غضب والديها من الحرب انتقل إليها وكوّن ذاكرة خاصة كأنها عاشتها. لولاها ما كانت ربما كاتبة تملك ما دعاه غراهام غرين قطعة ثلج في قلبها كما يجدر بكل الكتّاب. أصيب والدها في ساقه وهو يقاتل فقُطعت واستبدلت بأخرى خشبية. لم يعد الى الجبهة وبقي طوال حياته يتساءل عما إذا كان من الأفضل لو قتل مع رفاقه في معركة باسشنديل. أحس انه صاحب الحق الوحيد بالشكوى ونافسته زوجته التي ادعت أنها فقدت حبها الحقيقي في غرق سفينة. شكّكت دوريس في قولها لأنها لم تملك صورة فوتوغرافية له بل واحدة نشرت في صحيفة. كانت في السادسة عندما نادتها والدتها مع شقيقها:"أمكما المسكينة، المسكينة". قالت إنها تعاني نوبة قلبية، لكن كان يجب أن تدرك، هي الممرضة، انها نوبة قلق في الواقع، وبغضتها دوريس الى أن توفيت في سبعيناتها بالجلطة. بادلتها الأم العاطفة واتهمتها بالعهر في رسائلها، فباتت دوريس تمزقها من دون فتحها. رزخت الحرب على طفولتها، وسمّمتها بحس التوجس والتشاؤم. تحس بثقل الحرب يزداد مع تقدمها في العمر:"سأفرح عندما أموت لأن ذلك سينقذني من القلق تجاهها". قرأت حديثاً رواية لإريك ماريا ريمارك، مؤلف"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، عن ثلاثة جنود ألمان يعودون بعد الحرب الى بلادهم ليروا الناس يجرّون عربات كدسوا فيها ملايين الماركات التي لم تعد تساوي شيئاً. فهمت هتلر وشعبيته الباكرة، ومع ازدياد أهمية آرائها بعد نيلها نوبل العام الماضي قالت لصحيفة"آل باييس"الإسبانية إن هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001،"كانت رهيبة، لكن إذا عدنا الى تاريخ الجيش الإرلندي السري نجد أن ما حدث للأميركيين ليس رهيباً كثيراً". كانت في المستشفى مع بيتر المصاب بالسكري عندما أعلن عن نيلها نوبل الآداب. رأت الصحافيين ينتظرونها أمام بيتها فقالت:"لا أبالي البتة. نلت كل الجوائز في أوروبا، كل جائزة لعينة فيها"، علماً أن"بوكر"عصتها. ترى لجنة الجائزة"مجموعة سويديين لعناء"وتبرّر التأخير بفوزها بنوبل بأساليب كتابتها المختلفة. في الخامسة عشرة تركت الأسرة والمدرسة لتعمل على مقسم الهاتف، وفي التاسعة عشرة تزوجت فرانك وزدوم وأنجبت منه طفلين. بعد سبع سنوات تركت أسرتها وكان زواجها من غوتفريد ليسينغ الشيوعي"واجبي الثوري". تركته بعد أربع سنوات رزقت خلالها ببيتر الذي كان يلف عنقه بحبل من البصل الأخضر لدى الإعلان عن فوزها بنوبل. تركت روديسيا الى إنكلترا وهي تتأبط بيتر ومخطوطة"العشب يغني"التي صوّرت علاقة زوجة مزارع بيضاء بخادمها الأسود، وجمعت القدرة التقنية المتينة بالموهبة الفطرية المعززة بالمطالعة الشرهة للكتب التي طلبتها من بريطانيا. تركت الحزب الشيوعي بعدما هاجم نيكيتا خروتشوف جوزف ستالين في الاجتماع العشرين للشيوعية الأممية. كانت الماركسية"الحلم الأعذب"وبعد زمن بات الشيوعيون"قتلة بضمير مرتاح"يطلقون أسماء ضحاياهم، ومنهم وفق اعتقادها، زوجها الثاني على الشوارع. تتهم الشيوعيين بحرق غوتفريد وزوجته الثانية وهما في السيارة في طريقهما الى تنزانيا، ولا يفوتها أن تذكر انه لم يعتبر كتابتها جدية ورآها بورجوازية وفرويدية. في 1962 استكشفت الحياة الداخلية لامرأة ذكية محبطة في"دفتر الملاحظات الذهبي"الذي جعلها بطلة نسوية غصباً عنها. أحست أن الرواية ملك النسويات ونفرت منهن بعدما انتظرتها المعجبات، لا سيما الأميركيات والألمانيات، أمام بيتها في هامستيد. رفضت التركيز على محتواه السياسي دون الروائي، وقالت إنه أمانة في عنقها، وأن المرأة ربحت الحرب باستثناء المساواة في الراتب. الحب المقدس تبدأ إيزابيل الليندي الجزء الثاني من مذكراتها حيث انتهت في"باولا"."حصيلة أيامنا"الصادر في بريطانيا عن"فورث استيت"يمزج السيرة الحقيقية بالمتخيل إخلاصاً للتراث الأميركي اللاتيني في الواقعية السحرية. يخفف المرح من الانسياب العاطفي، وتعترف الكاتبة بنزاهة بأنها اختارت شريكة ابنها بنفسها وصحبتها في رحلة الى الأمازون اختباراً لمعدنها قبل الزواج. سيليا، زوجة الابن الآخر، الكاثوليكية المحافظة تخبر العائلة أثناء غداء عيد الشكر أنها ستترك زوجها وأطفالها لتساكن صديقة ابن زوج الليندي بعدما اكتشفتا أنهما مثليتان. تتدبر الكاتبة أمر تبني راهبتين بوذيتين مثليتين طفل ابن زوجها، وتساهم في إقناع السكرتيرة جولييت بالحمل وإعطاء الطفل لابنها، إلاّ أن الحمل لا ينجح. تعيش الليندي في خليج سان فرنسيسكو منذ ثلاثين سنة، عندما غادرت بلدها التشيلي بعد مقتل قريبها الرئيس سلفادور الليندي. تكتب عن أسرتها الممتدة التي تدعوها"قبيلتي"وتروي كيف أقنعتها سيليا بتعاطي الماريجوانا لكي تكافح العجز عن الكتابة. تشرك في التجربة والدتها أبويلا هيلدا"التي ترى ما خفي من الأشياء"، لكن المخدر لا ينتج إلا القهقهة. زوجها ويلي، المحامي الأميركي الذي يدافع عن حقوق المهاجرين، يجرب معها شراباً يتناوله هنود الأمازون. يمضيان يومين يرتجفان في زاوية الغرفة، ويتقيآن سائلاً أبيض غريباً، غير أن الليندي تعبر التجربة مقتنعة بأن العالم المادي وهم، ومزودة مادة تكفي ثلاثية قصصية للأطفال. كتبت الليندي في"باولا"عن شعورها أمام جثة الشاب الذي تحرش بها طفلة. هجرها زوجها وطفلاها لتعيش مع صديقها. عملها الإذاعي وقول الشاعر بابلو نيرودا إنها آخر من يفكر فيهم لكتابة سيرته. سوء علاج ابنتها باولا من مرض البورفيريا في إسبانيا وموتها، وهجرتها الى أميركا بعد مقتل قريبها الرئيس في انقلاب دموي. تكتب الليندي بطراوة وحيوية عن الخسارة والخيبة والحب المقدس الذي يغفر الأذى الناجم عنه. في الخامسة والستين اليوم ولا تطلب السعادة حتى في هذا العمر."أريد حياة شيّقة أستطيع الكتابة عنها. أعتقد أنني حكواتية بطبعي وأرى العالم قصصاً أمامي". أكثر ما يهمها"التوتر، الإيقاع، النبرة وألوان القصة". وعن بابلو نيرودا:"كان محقاً. أنا صحافية سيئة، وأحب كتابة الرواية لأنها تسمح لي بالكذب. هذا فضيلة إذا كنت روائياً". بدأت بكتابة رواية عن العبودية، وتجد صعوبة لأنها ليست سوداء."لا يحق لي أخلاقياً، وليس من الصواب السياسي، الكتابة عما لا ينتمي افتراضاً الى تراثي. لكنّ ثمة حدوداً. كتبت عن أشخاص مختلفين، أماكن وظروف وأزمنة مختلفة". خيانة أغضب ما جيان السلطة في بلاده عندما أصدر مجموعة"مد لسانك"عن التيبت، وعوقب بمنع أعماله. روايته"غيبوبة بكين"الصادرة بالإنكليزية عن دار"شاتو آند وندوس"تختزل الصين بشاب يصاب برصاصة أثناء تظاهر الطلاب في ساحة تياننمين ويقع في غيبوبة. يصبح سجيناً مزدوجاً. يحرسه رجل شرطة لاشتراكه في التظاهر الممنوع، ويتحول جسده"قبراً من لحم"لدماغه النشط المصعوق."لم يعد إنساناً"، يقول الطبيب، ويجسد وفق صديق نصيحة ماو تسي تونغ بپ"البقاء ثابتاً في ظروف متغيرة". تتحول الصين قوة اقتصادية عصرية، ووسط عصافير الدوري سكن جسد داي وي الذي تهتم والدته به، وتبيع كليته وبوله لتوفر ثمن الأدوية. تعذّب خيانة الجسد داي وي الذي يحتفظ بإحساس تام بأناه بين الماضي والحاضر الى أن يتذكر انفصاله الى جسد وعقل. عندما تزوره صديقته السابقة يستنشق عطرها ويتلهف الى لمسها يده ثم يتذكر أنه جثة. يدخل عصفور دوري غرفته، ويشّكل بطيرانه وصوته وقفزه فكرة المكان لداي وي الذي يحدّق ولا يرى."اتسعت الغرفة كثيراً منذ وصوله"يفكر، وإذ يحط العصفور على صدره تهدهده دقات قلب داي فينام. يتجنب ما جيان الوعظ على رغم البحث المفصّل في السياسة والقمع وخطط تحرك الطلاب. يحرّك الحوار ببراعة، ويزيد المرح من متعة النص، وتتداخل صور الماضي والحاضر لتسجل هشاشة الفرد والجماعة في مجتمع منفصم أمين لتخلفه الثقافي متقدم اقتصادياً. تنتهي الرواية بمزيد من التهميش والتغييب. تدمّر الحكومة المبنى الذي يعيش فيه داي لكي تبني مكانه ملعباً أولمبياً، فيغادر السكان واحداً تلو الآخر ويبقى المشلول وأمه نصف المجنونة.